الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } * { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }

فيه أربع مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ } يعني اليهود. { ٱلنَّاسَ } يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. حسدوه على النبوّة وأصحابَه على الإيمان به. وقال قتادة: «الناس» العرب، حسدتهم اليهود على النبوّة. الضحاك: حسدت اليهود قريشاً لأن النبوّة فيهم. والحسد مذموم وصاحبه مغموم. وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب رواه أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد نَفَس دائم، وحزن لازم، وعَبرة لا تنفد. وقال عبد الله بن مسعود: لا تُعادُوا نِعم الله. قيل له: ومَن يعادي نِعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدوّ نعمتي متسخط لقضائي غيرُ راضٍ بقسمتي. ولمنصور الفقيه:
ألاَ قُلْ لمن ظَلّ لي حاسدا   أتدرِي على مَن أسأتَ الأدَبْ
أسأتَ على اللَّه في حكمه   إذا أنتَ لم ترض لي ما وَهَبْ
ويقال: الحسد أوّل ذنب عُصي الله به في السماء، وأوّل ذنب عُصي به في الأرض فأما في السماء فحسَدُ إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسدُ قابِيلَ لهابيلَ. ولأبي العتاهية في الناس:
فيا ربِّ إن الناس لا ينصفونَنِي   فكيف ولو أنصفتُهم ظلَمونِي
وإن كان لي شيءٌ تصدَّوْا لأخذه   وإن شئتُ أبغِي شيئَهم منعوني
وإن نالهم بذْلي فلا شُكرَ عندهم   وإن أنا لم أبذُلْ لهم شتمُونِي
وإنْ طَرقَتْنِي نكبةٌ فكِهُوا بها   وإن صَحِبتني نعمةٌ حسدوني
سأمنع قلبي أن يَحنّ إليهمو   وأحجب عنهم ناظري وجُفونِي
وقيل: إذا سَرّك أن تسلم من الحاسد فغَمَ عليه أمرك. ولرجل من قريش:
حسدوا النعمةَ لما ظهرتْ   فرموها بأباطيل الكَلِمْ
وإذا ما ٱللَّه أسدَى نعمة   لم يَضِرْها قولُ أعداء النِّعَمْ
ولقد أحسن من قال:
ٱصبِرْ على حسدِ الحسو   د فإن صبرك قاتلُه
فالنار تأكل بعضها   إن لم تجد ما تأكُله
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى:رَبَّنَآ أَرِنَا ٱللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } [فصلت: 29]. إنه إنما أراد بالذي من الجنّ إبليس والذي من الإنس قابيل وذلك أن إبليس كان أوّل من سنّ الكفر، وقابيل كان أوّل من سنّ القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد. وقال الشاعر:
إن الغُرابَ وكان يمشي مشيةً   فيما مضى من سالف الأحوالِ
حسد القَطاةَ فَرَامَ يمشِي مشيَها   فأصابه ضربٌ من التّعقالِ
الثانية ـ قوله تعالى: { فَقَدْ آتَيْنَآ } ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيماً. قال همام بن الحارث: أُيِّدوا بالملائكة. وقيل: يعني ملك سليمان عن ابن عباس. وعنه أيضاً: المعنى أم يحسدون محمداً على ما أحلّ الله له من النساء فيكون المُلْك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك.

السابقالتالي
2