الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرّة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلاً ولا كثيراً كما قال تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } [يونس: 44] والذرّة: النملة الحمراء عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل. وعنه أيضاً رأس النملة. وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلاً وضع خبزاً حتى علاه الذرّ مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئاً. قلت: والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزناً كما أن للدينار ونصفه وزناً. والله أعلم. وقيل: الذرة الخَرْدَلَة كما قال تعالى:فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا } [الأنبياء: 47]. وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها. وفي صحيح مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمِل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها ". قوله تعالى: { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أي يكثر ثوابها. وقرأ أهل الحجاز «حَسَنَةٌ» بالرفع، والعامّة بالنصب فعلى الأوّل «تَكُ» بمعنى تحدث، فهي تامة. وعلى الثاني هي الناقصة، أي إن تَكُ فعلته حسنة. وقرأ الحسن «نضاعفها» بنون العظمة. والباقون بالياء، وهي أصح، لقوله «ويؤتِ». وقرأ أبو رجاء «يُضَعِّفْهَا»، والباقون { يُضَاعِفْهَا } وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيدة: { يُضَاعِفْهَا } معناه يجعله أضعافاً كثيرة «ويُضَعِّفْها» بالتشديد يجعلها ضعفين. { مِن لَّدُنْهُ } من عنده. وفيه أربع لغات: لَدُنْ ولُدْنُ ولَدُ ولَدَى فإذا أضافوه إلى أنفسهم شدّدوا النون، ودخلت عليه «مِنْ» حيث كانت «مِن» الداخلة لابتداء الغاية و «لَدُنْ» كذلك فلما تشاكلا حسن دخول «من» عليها ولذلك قال سيبويه في لدن: إنه الموضع الذي هو أوّل الغاية. { أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة.وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدْرِي الطويل ـ حديث الشفاعة ـ وفيه: «حتى إذا خَلَص المؤمنون من النار فَوَالذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشد مناشدة للّهِ في ٱستقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويُصلُون ويحجّون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحرّم صورُهم على النار فيخرجون خلقا كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دِينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيراً ثم يقولون ربنا لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً.

السابقالتالي
2