الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }

فيه عشر مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ } الصّدُقات جمعٌ، الواحدة صَدُقة. قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صُدْقة والجمع صُدْقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت. قال المازنيّ: يقال صِداق المرأة بالكسر، ولا يقال بالفتح. وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس. والخِطاب في هذه الآية للأزواج قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج. أمرهم الله تعالى بأن يتبرّعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم. وقيل: الخِطاب للأولياء قاله أبو صالح. وكان الوليّ يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئاً، فنُهُوا عن ذلك وأمِروا أن يدفعوا ذلك إليهن. قال في رواية الكلبيّ: إن أهل الجاهلية كان الوليّ إذا زوّجها فإن كانت معه في العِشرة لم يعطها من مهرها كثيراً ولا قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئاً غير ذلك البعير فنزل: { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }. وقال المُعْتَمِر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرميّ أن المراد بالآية المتَشَاغِرون الذين كانوا يتزوّجون ٱمرأة بأُخرى، فأُمِروا أن يضربوا المهور. والأوّل أظهر فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد لأنه قال: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } إلى قوله: { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }. وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأوّل فيها هو الآخر. الثانية ـ هذه الآية تدلّ على وجوب الصداق للمرأة، وهو مُجَمعٌ عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيّد إذا زوّج عبده من أَمَته أنه لا يجب فيه صداق وليس بشيء لقوله تعالى: { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } فعمّ. وقال:فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [النساء: 25] وأجمع العلماء أيضاً أنه لا حَدّ لكثيره، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله:وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [النساء: 20]. وقرأ الجمهور «صَدُقَاتِهِنّ» بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة «صُدْقاتِهِن» بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ النَّخَعيّ وابن وَثّاب بضمهما والتوحيد «صُدُقَتَهُنّ». الثالثة ـ قوله تعالى: { نِحْلَةً } النِّحلة والنُّحلة، بكسر النون وضمها لغتان. وأصلها من العطاء نحلْتُ فلاناً شيئاً أعطيته. فالصداق عطِيّة من الله تعالى للمرأة. وقيل: «نِحْلة» أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع. وقال قتادة: معنى «نِحلة» فريضة واجبة. ابن جُريج وابن زيد: فريضةً مُسَمّاةً. قال أبو عبيد ولا تكون النِّحلة إلا مسمّاة معلومة. وقال الزجاج: «نحلة» تَديُّناً. والنِّحلة الديانة والمِلّة. يقال: هذا نِحلته أي دينه. وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها:
لا يأخذُ الحُلْوانَ من بناتنا   
تقول: لا يفعل ما يفعله غيره. فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء.

السابقالتالي
2 3