الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }

فيه ثمان عشرة مسألة: الأُولى ـ أجمع العلماء على أن هذه الآية من المُحْكَم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ. وكذلك هي في جميع الكتب. ولو لم يكن كذلك لعُرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب. وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار، لمن له الحكم والاختيار فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره قال الله تعالىفَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا } [الكهف: 110] حتى لقد قال بعض علمائنا: إنه من تطهّر تبرُّداً أو صام مُحِمّاً لِمَعِدَته ونَوَى مع ذلك التقرّب لم يُجْزِه لأنه مزج في نية التقرب نيّةً دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص كما قال تعالى:أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر: 3]. وقال تعالى:وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5]. وكذلك إذا أحسّ الرجل بداخلٍ في الركوع وهو إمام لم ينتظره لأنه يُخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصاً لله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تبارك وتعالى أنا أغْنَى الشركاء عن الشِّرك مَن عمِل عملاً أشْرَك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه " وروى الدَّارَقُطنِيّ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُجاء يوم القيامة بصُحُف مختمة فتُنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة ٱلقُوا هذا وٱقبَلُوا هذا فتقول الملائكة وعزتِك ما رأينا إلا خيراً فيقول الله عز وجل ـ وهو أعلم ـ إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليومَ من العمل إلا ما كان ابْتُغي به وجهي " وروي أيضاً عن الضحاك بن قيس الفِهْرِي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكاً فهو لشريكي يا أيها الناس أخْلِصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرَّحِم فإنها للرَّحِم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء ". مسألة ـ إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم. وأصله اعتقاد شريك لله في ألوُهيتّه، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }. ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجوداً مّا غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونَه إلهاً كالقدرية مجوس هذه الأُمة، وقد تبرّأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10