الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }

فيه خمس مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } قد تقدّم معنى الشقاق في «البقرة». فكأنّ كل واحد من الزوجين يأخذ شِقّاً غير شِقّ صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه. والمراد إن خِفتم شِقاقاً بينهما فأضيف ٱلمصدر إلى الظرف كقولك: يعجِبني سَيْر الليلة المُقْمرة، وصومُ يومِ عرفة. وفي التنزيل:بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [سبأ: 33]. وقيل: إن «بَيْنَ» أجرِي مجرى ٱلأسماء وأزِيل عنه الظرفية إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما، أي وإن خِفتم تباعد عشرتهما وصحبتهما { فَٱبْعَثُواْ }. و { خِفْتُمْ } على الخلاف المتقدّم. قال سعيد بن جُبير: الحُكْم أن يعِظَها أوّلاً، فإن قبِلت وإلا هجرها، فإن هي قبِلت وإلا ضربها، فإن هي قبِلت وإلا بعث الحاكِم حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخُلْع. وقد قيل: له أن يضرِب قبل الوعظ. والأوّل أصح لترتيب ذلك في الآية. الثانية ـ الجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله: «وَإنْ خِفْتُمْ» الحُكّامُ والأُمراء. وأن قوله: { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ } يعني الحكمين في قول ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما. أي إن يرد الحكمان إصلاحاً يُوفّق الله بين الزوجين. وقيل: المراد الزوجان أي إن يرد الزوجان إصلاحاً وصِدقاً فيما أخبرا به الحكمين { يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ }. وقيل: الخطاب للأولياء. يقول: { وَإِنْ خِفْتُمْ } أي علمتم خِلافاً بين الزوجين { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه. فإن لم يُوجد من أهلهما مَن يصلح لذلك فيُرسِل من غيرهما عدلين عالِمين وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يُدْرَ مِمن ٱلإساءة منهما. فأمّا إن عرِف الظالم فإنه يؤخذ له الحق من صاحبه ويُجبر على إزالة الضرر. ويقال: إن الحَكَم من أهل الزوج يخلو به ويقول له: أخبِرني بما في نفسِك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك؟ فإن قال: لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرّق بيني وبينها، فيُعرف أن مِن قِبله النشوز. وإن قال: إنِّي أهواها فأرضِها من مالي بما شِئت ولا تفرّق بيني وبينها، فيُعلم أنه ليس بناشِز. ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها: أتهوِي زوجَك أم لا فإن قالت: فرّق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد فيعلم أن النشوز من قِبلها. وإن قالت: لا تفرّق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسِن إليّ، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قِبله يُقبِلان عليه بالعِظةِ والزجر والنهي فذلك قوله تعالى: { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ }.

السابقالتالي
2 3 4