الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }

فيه مسألتان: الأُولى ـ لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر، وعَدَ على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودلّ هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائرَ. وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللّمسة والنظرة تُكفَّر باجتناب الكبائر قَطْعاً بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك. ونظير الكلام في هذا ما تقدّم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أُخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنّ إذا ٱجْتَنَبَ الكبائر " وروى أبو حاتم البُسْتيّ في صحيح مسنده عن " أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات، ثم سكت فأكبّ كل رجل منا يبكي حزيناً ليَمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ما من عبد يؤدّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفّق» ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } " فقد تعاضد الكتاب وصحيحُ السنة بتكفير الصغائر قطعاً كالنظر وشِبهه. وبيّنت السنة أن المراد بـ { تَجْتَنِبُواْ } ليس كلّ الاجتناب لجميع الكبائر. والله أعلم. وأما الأُصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوّة الرّجاء والمشيئةُ ثابتةٌ. ودلّ على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفيرَ صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألاّ تِباعة فيه، وذلك نقض لعُرَى الشريعة. ولا صغيرة عندنا. قال القُشيريّ عبد الرحيم: والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعاً من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي. قلت: وأيضاً فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم: ـ لا تنظرْ إلى صِغر الذنب ولكن ٱنظر من عصيت ـ كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر، وعلى هذا النحو يخرّج كلام القاضي أبي بكر بن الطيّب والأُستاذ أبي إسحاق الأسفرايني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقُبْلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى، ولا ذنب عندنا يُغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر لقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3