الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }

فيه خمس مسائل: الأولى قوله تعالى: { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاماً كقوله:وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [الأعراف: 120] ولا سِحر مع السجود، فكذلك لا يُتْمَ مع البلوغ. وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: " يَتيمُ أبي طالب " استِصحابا لما كان. { وآتوا } أي أعطوا. والإيتاء الإعطاء. ولفلان أَتْوٌ، أي عطاء. أبو زيد أَتَوْتُ الرجل آتُوه إتَاوَةً، وهي الرِّشوة. واليتيم من لم يبلغ الحُلُم، وقد تقدّم في «البقرة» مستوفى. وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء. نزلت ـ في قول مقاتِل والكلبِيّ ـ في رجلٍ من غَطَفان كان معه مالٌ كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمُّه فنزلت، فقال العمّ: نعوذ بالله من الحُوبِ الكبير! وردّ المال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " «من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته. فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال عليه السلام: «ثبت الأجر وبقي الوِزر». فقيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: «ثبت الأجر للغلام وبقي الوِزر على والده» " لأنه كان مشركا. الثانية ـ وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين: أحدهما ـ إجراء الطعام والكسوة ما دامت الوِلاية إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكُلّي والاستبدادَ كالصغير والسفيه الكبير. الثاني: الإيتاء بالتمكّن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتِلاء والإرشاد، وتكون تسميته مجازاً، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم كقوله تعالى: { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } أي الذين كانوا سحرةً. وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: " يتيم أبي طالب " فإذا تحقّق الوليَّ رشدَه حرُم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصِياً. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعِشرين سنة أُعطِي ماله كله على كل حال، لأنه يصير جَدّاً. قلت: لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناسَ الرشد وذكره في قوله تعالى: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }. قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن: لما لم يقيّد الرشد في موضع وقيِّدَ في موضع وجب استعمالهما، فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفِيهٌ لم يُؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين. وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدّاً فإذا صار يصلح أن يكون جدّاً فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم؟! وهل ذلك إلاّ في غاية البعد؟ قال ابن العربي: وهذا باطل لا وجه له لا سيما على أصله الذي يرى المقدّرات لا تثبت قياساً وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة.

السابقالتالي
2