الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

فيهما أربع مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنباً. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنباً في موضع آخر. وٱتفقت الأُمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى:وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } [النور:31]. وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه ـ خلافاً للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائباً من أقام على ذنب. ولا فرق بين معصية ومعصية ـ هذا مذهب أهل السنة. وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجباً على الله من طريق العقل كما قال المخالف لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلِّف لهم فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ } [الشورىٰ: 25.] وقوله:أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [التوبة: 104]. وقوله:وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ } [طه: 82] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلاً فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة. قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامّة الشروط فقال أبو المعالي يغلب على الظن قبول توبته. وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز. قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } وقوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ }. وإذا تقرّر هذا فأعلم أن في قوله «على الله» حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده. وهذا نحو " قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتدري ما حق العباد على الله»؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن يدخلهم الجنة» " ،. فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق. دليله قوله تعالى:كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 12] أي وعد بها. وقيل: «على» ها هنا معناها «عند» والمعنى واحد، التقدير: عند الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها وهي أربعة الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره فإذا اختلّ شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة.

السابقالتالي
2 3