الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } * { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }

قوله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } كسرت «إنّ» لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة. وقد تقدّم في «آل عمران» ٱشتقاق لفظ المسيح. { رَسُولَ ٱللَّهِ } بدل، وإن شئت على معنى أعني. { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } ردّ لقولهم. { وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } أي ألقى شبهه على غيره كما تقدّم في «آل عمران». وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه كما قال تعالى: { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ }. والإخبار قيل: إنه عن جميعهم. وقيل: إنه لم يختلف فيه إلا عوامّهم ومعنى ٱختلافهم قول بعضهم إنه إلۤه، وبعضهم هو ابن الله. قاله الحسن: وقيل ٱختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى. وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه. وقيل: ٱختلافهم أن النُّسْطُورِيّة من النصارى قالوا: صلِب عيسى من جهة ناسُوته لا من جهة لاهُوته. وقالت المَلْكانية: وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوتهِ ولاهوتهِ. وقيل: ٱختلافهم هو أنهم قالوا: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ ٰ وقيل: ٱختلافهم هو أن اليهود قالوا: نحن قتلناه، لأن يهوذا رأس اليهود وهو الذي سعى في قتله. وقالت طائفة من النصارى: بل قتلناه نحن. وقالت طائفة منهم: بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه. { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } مِن زائدة وتمّ الكلام. ثم قال جل وعز: { إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } ٱستثناء ليس من الأوّل في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل أي ما لهم به من علمٍ إلا ٱتِّباع الظن. وأنشد سيبويه:
وبلدةٍ ليس بها أنِيسُ   إلاّ اليعافير وإلا العِيسُ
قوله تعالى: { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } قال ابن عباس والسدي: المعنى ما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك: قتلته علماً إذا علمته عِلما تامّاً فالهاء عائدة على الظنّ. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقيناً لقال: وما قتلوه فقط. وقيل: المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقيناً فالوقف على هذا على «يَقِيناً». وقيل المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على «وَمَا قَتَلُوهُ» و «يَقِيناً» نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما ـ أي قالوا هذا قولاً يقيناً، أو قال الله هذا قولاً يقيناً. والقول الآخر ـ أن يكون المعنى وما علموه علماً يقيناً. النحاس: إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقيناً فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد «بَلْ» فيما قبلها لضعفها. وأجاز ابن الأنباريّ الوقف على «وَمَا قَتَلُوهُ» على أن ينصب «يقيناً» بفعل مضمر هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدّقتم يقيناً أي صدقا يقيناً. { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } ابتداء كلام مستأنف أي إلى السماء، والله تعالى متعال عن المكان وقد تقدّم كيفية رفعه في «آل عمران». { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً } أي قوياً بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن أستيسانوس الرّومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. { حَكِيماً } حكم عليهم باللعنة والغضب.