الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }

فيه ثمان مسائل: الأُولى ـ لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ، وانجرّ الأمر إلى ذكر ميراثهنّ مع مواريث الرجال، ذكر أيضاً التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا تتوهّم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفّف. الثانية ـ قوله تعالى: { وَٱللاَّتِي } «اللاّتي» جمع الّتي، وهو ٱسم مبهم للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير، ولا يتمّ إلا بصلته وفيه ثلاث لغات كما تقدّم. ويجمع أيضاً «اللاّتِ» بحذف الياء وإبقاء الكسرة و «اللاۤئي» بالهمز وإثبات الياء، و «اللاۤءِ» بكسر الهمزة وحذف الياء، و «الّلا» بحذف الهمزة. فإن جمعت الجمع قلت في اللاّتي: اللّوَاتِي، وفي اللاّء: اللوَائي. وقد روى عنهم «اللواتِ» بحذف الياء وإبقاء الكسرة قاله ٱبن الشجرِي. قال الجوهري: أنشد أبو عبيد:
من اللّواتي والتي واللاّتِ   زَعمْنَ أنْ قد كَبُرتْ لِداتِ
واللَّوَا بإسقاط التاء. وتصغير التي اللّتَيَّا بالفتح والتشديد قال الراجز:
بعد اللُّتَيّا واللَّتَيّا والّتِي   
وبعض الشعراء أدخل على «التي» حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا أللَّه وحده فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها. وقال:
من ٱجلِك يا لتِي تَيّمْتِ قلبِي   وأنتِ بَخِيلةٌ بِالوَدِّ عنِّي
ويقال: وقع في اللّتَيّا والّتِي وهما ٱسمان من أسماء الداهية. الثالثة ـ قوله تعالى: { يَأْتِينَ ٱلْفَاحِشَةَ } الفاحشة في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ ٱبن مسعود «بِالفاحِشةِ» بباء الجرّ. الرابعة ـ قوله تعالى: { مِن نِّسَآئِكُمْ } إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات كما قال:وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } [البقرة: 282] لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم. الخامسة ـ قوله تعالى: { فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعةً تغليظاً على المدّعِي وستراً على العباد. وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن قال الله تعالى:وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [النور: 4] وقال هنا: { فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ }. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: " جاءت اليهود برجل وٱمرأة منهم قد زَنَيَا فقال: النبي صلى الله عليه وسلم«ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتَوهُ بابنَيْ صُورِيا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التوراة»؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعةٌ أنهم رأَوْا ذكره في فرجها مثلَ المِيل في المُكْحُلة رُجِما. قال: «فما يمنعكما أن ترجموهما» قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميلِ في المكحلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما "

السابقالتالي
2