الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } * { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }

قوله تعالىٰ: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مُحِقّ ومنافق لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتابِ الله. فالمنزَّل قوله تعالىٰ:وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [الأنعام: 68]. وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخَرون من القرآن. وقرأ عاصم ويعقوب «وقد نَزَّل» بفتح النون والزاي وشدّها لتقدّم اسم الله جلّ جلاله في قوله تعالىٰ: { فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً }. وقرأ حُميد كذلك، إلاَّ أنه خفّف الزاي. الباقون «نُزِّل» غير مسمى الفاعل. { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ } موضع { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ } على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه. وفي قراءة الباقين رفع لكونه ٱسم ما لم يسم فاعله. { يُكْفَرُ بِهَا } أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء كما تقول: سمعت عبد الله يُلام، أي سمعت اللوم في عبد الله. قوله تعالىٰ: { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي غير الكفر. { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضِي فعلهم، والرّضا بالكفر كفر قال الله عزّ وجلّ: { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ }. فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكِر عليهم يكون معهم في الوِزر سواء، وينبغي أن ينكِر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعمِلوا بها فإن لم يقدر على النكِير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوماً يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أي إن الرضا بالمعصية معصية ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبِّه بحكم الظاهر من المقارنة كما قال:
فكل قرين بالمقارِن يقتدي   
وقد تقدّم. وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي كما بيّنا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى. وقال الكلبيّ: قوله تعالىٰ { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } نسخ بقوله تعالىٰ:وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 69]. وقال عامة المفسرين: هي محكمة. وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل محدِث في الدين مُبْتَدِع إلى يوم القيامة. قوله تعالىٰ: { إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَافِقِينَ } الأصل «جامع» بالتنوين فحذف استخفافاً فإنه بمعنى يجمع. { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } يعني المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر. { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ } أي غلبة على اليهود وغنيمة.

السابقالتالي
2 3