الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

فيه عشر مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { كُونُواْ قَوَّامِينَ } { قَوَّامِينَ } بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها. ثم ذكر الوالدين لوجوب بِرِّهما وعِظم قدرِهما، ثم ثنّى بالأقربين إذ هم مظنة المودّة والتعصب فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال. الثانية ـ لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأُم ماضية، ولا يمنع ذلك من برّهما، بل من برّهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى:قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] فإن شهد لهما أو شهدا له وهي: الثالثة ـ فقد اختلف فيها قديماً وحديثاً فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأوّلون في ذلك قول الله تعالىٰ: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } فلم يكن أحد يُتَّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أُمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة وهو مذهب الحسن والنخعِيّ والشعبِيّ وشريح ومالك والثورِيّ والشافعيّ وابن حنبل. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولاً. وروي عن عمر ابن ٱلخطاب أنه أجازه وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق والثوريّ والمزنِيّ. ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلاً إلاَّ في النسب. وروي عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه. وقال مالك وأبو حنيفة: شهادة الزوج لزوجته لا تقبل لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة. وقال الشافعيّ: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو مُعَرّض للزوال. والأصل قبول الشهادة إلاَّ حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل وهذا ضعيف فإن الزوجية توجب الحَنَان والمواصلة والألفة والمحبة، فالتهمة قوية ظاهرة. وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم. قال الخطابيّ: ذو الغِمْر هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فتردّ شهادته عليه للتهمة. وقال أبو حنيفة: شهادته على العدوّ مقبولة إذا كان عدلاً. والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال. ويُقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدِمُهم ويكون في حوائجهم وذلك مثل الأجِير أو الوكيل ونحوه.

السابقالتالي
2 3 4