الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

فيه خمس مسائل: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ } شرط وجوابه. { فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً } اختلِف في تأويل المراغم فقال مجاهد: المراغَم المتزَحْزَح. وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغم المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: والمراغَم المهاجَر وقاله أبو عبيدة. قال النحاس: فهذه الأقوال متفِقة المعاني. فالمراغم المذهب والمتحوَّل في حال هجرة، وهو اسم الموضع الذي يُراغَم فيه، وهو مشتق من الرِّغام. ورَغِم أنف فلان أي لَصِق بالتراب. وراغمت فلاناً هجرته وعاديته، ولم أُبالِ إن رغِم أنفه. وقيل: إنما سمي مهاجراً ومراغماً لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمّي خروجه مُراغَماً، وسمّى مصيره إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم هجرة. وقال السديّ: المراغم المبتغي للمعيشة. وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: المراغم الذهاب في الأرض. وهذا كله تفسير بالمعنى، وكله قريب بعضه من بعض فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا، وهو أن يرغِم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده فكأن كفار قريش أرغموا أُنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أُنوف قريش لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. ومنه قول النابغة:
كطَوْدٍ يُلاذُ بِأركانِه   عزِيزِ المُراغَمِ والْمَهْرَبِ
الثانية ـ قوله تعالىٰ: { وَسَعَةً } أي في الرزق قاله ابن عباس والربيع والضحاك. وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العَيْلَة إلى الغِنىٰ. وقال مالك: السعة سعة البلاد. وهذا أشبه بفصاحة العرب فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر لهمومه وفِكَره وغير ذلك من وجوه الفرَج. ونحو هذا المعنى قول الشاعر:
وكنتُ إذا خلِيلٌ رَامَ قَطْعِي   وجدتُ ورَاي منْفَسَحاً عَرِيضَا
آخر:
لكان لي مُضْطَرَبٌ وَاسِعٌ   في الأرض ذاتِ الطّولِ والعَرْضِ
الثالثة ـ قال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المُقام بأرض يُسَبُّ فيها السلفُ ويعملُ فيها بغير الحق. وقال: والمرَاغَم الذهاب في الأرض. والسَّعَةُ سَعَةُ البلاد على ما تقدم. واستدل أيضاً بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الَغزْوِ ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب رواه ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة. ورُوِي ذلك عن ابن المبارك أيضاً. الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية. قال عكرمة مولى ابن عباس: طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. وفي قول عِكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديماً، وأن الاعتناء به حَسَنٌ والمعرفة به فضل ونَحْوٌ منه قول ابن عباس: مكثت سنين أُريد أن أسأل عمر عن المرأتينِ اللتينِ تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلاَّ مهابته.

السابقالتالي
2 3