الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } قد مضى في «البقرة» اشتقاق { الناس } ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للإعادة. وفي الآية تنبيه على الصانع. وقال { وَاحِدَةٍ } على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر. ويجوز في الكلام { من نفس واحد } وهذا على مراعاة المعنى إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة «واحد» بغير هاء. { وبثَّ } معناه فرّق ونشر في الأرض ومنهوَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [الغاشية: 16] وقد تقدّم في «البقرة» و { مِنْهُمَا } يعني آدام وحوّاء. قال مجاهد: خلقت حوّاء من قُصَيْرَي آدم. وفي الحديث: " خلقت المرأة من ضِلع عَوْجاء " ، وقد مضى في البقرة. { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } حَصَر ذريتهما في نوعين فاقتضى أن الخُنْثى ليس بنوع، لكن له حقيقة تردّه إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في «البقرة» من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها. الثانية ـ قوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } كرّر الاتقاء تأكيداً وتنبيهاً لنفوس المأمورين. و «الذي» في موضع نصب على النعت. «وَالأَرحَامَ» معطوف. أي اتقوا الله أن تعصوه. واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقرأ أهل المدينة «تَسَّاءلُونَ» بإدغام التاء في السين. وأهل الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تائين، وتخفيف السين لأن المعنى يعرف وهو كقوله:وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ } [المائدة: 2] و «تَنَزَّلُ» وشبهه. وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعْمَش وحَمْزة { وَٱلأَرْحَامِ } بالخفض. وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لَحْن لا تحِلّ القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا عِلّة قبحه قال النحاس: فيما علمتُ. وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال جماعة: هو معطوف على المكنِيّ فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: سألتك بالله والرحِم هكذا فسره الحسن والنخعِيّ ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي. وضعّفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض كقولهفَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص: 81] ويقبح «مررت به وزيدٍ» قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه فكما لا يجوز «مررت بزيد وبك» كذلك لا يجوز «مررت بك وزيد». وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلاّ في الشعر كما قال:
فاليوم قرّبتَ تَهجُونا وتشتِمُنا   فاذهبْ فما بكَ والأيامِ من عَجَب
عطف «الأيام» على الكاف في «بك» بغير الباء للضرورة. وكذلك قول الآخر:
نعلِّق في مِثل السَّوَارِي سيوفنا   وما بينها والكَعْبِ مَهْوى نَفَانِفُ

السابقالتالي
2 3 4