الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } * { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

قوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ } يعني الكافر { ضُرٌّ } أي شدّة من الفقر والبلاء { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي راجعاً إليه مُخْبِتاً مطيعاً له مستغيثاً به في إزالة تلك الشدّة عنه. { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ } أي أعطاه وملّكه. يقال: خوّلك الله الشيء أي ملّكك إياه وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هُنَالِكَ إِن يُسْتَخْوَلُوا الْمالَ يُخْوِلوا   وإِن يُسْألُوا يُعْطُوا وإِن يَيْسِروا يُغْلُوا
وخَوَلُ الرجل: حَشَمُه الواحد خائل. قال أبو النّجم:
أَعْطَى فلم يَبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ   كُوم الذُّرى مِن خَوَلِ الْمُخَوَّلِ
{ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي نسى ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه. فـ«ـما» على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل: بمعنى من كقوله:وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [الكافرون: 3] والمعنى واحد. وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر. { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } أي أوثاناً وأصناماً. وقال السّدي: يعني أنداداً من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. { لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي ليقتدي به الجهال. { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أي قل لهذا الإِنسان «تَمَتَّع» وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } أي مصيرك إلى النار. قوله تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱللَّيْلِ } بيّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي «أَمَّنْ» بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيـى بن وثّاب والأعمش وحمزة: «أَمَنْ هُوَ» بالتخفيف على معنى النداء كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين كما قال أوس بن حَجَر:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيدٍ   إِلاَّ يَداً لَيْسَت لها عَضُدُ
وقال آخر هو ذو الرُّمّة:
أَدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرةً   فَمَاءُ الْهَوى يَرْفَضُّ أَو يَتَرَقْرَقُ
فالتقدير على هذا { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يُصلي ويَصوم أبشر فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: إن الألف في «أمن» ألف استفهام أي «أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ» أفضل؟ أم من جعل لله أنداداً؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد «أَمَّنْ» فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ» فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وأم بمعنى بل، ومَن بمعنى الذي والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع قاله ابن مسعود.

السابقالتالي
2