الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }

قوله تعالى: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } قال المبرد: ما عظّموه حقّ عظمته من قولك فلان عظيم القدر. قال النحاس: والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذ عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها. ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }. ثم نزّه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }. وفي الترمذي عن عبد الله قال: " جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» " قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " وفي الترمذي " عن عائشة: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } قالت قلت فأين الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: «على جسر جهنم» " في رواية " على الصراط يا عائشة " قال: حديث حسن صحيح. وقوله: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ } «ويقبض الله الأرض» عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته يقال: ما فلان إلا في قبضتي، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي، والناس يقولون الأشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته. وقد يكون معنى القبض والطي إفناء الشيء وإذهابه فقوله جل وعز: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ } يحتمل أن يكون المراد به والأرض جميعاً ذاهبة فانية يوم القيامة، والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك شاهدان: قوله: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً } ولأن الموضع موضع تفخيم وهو مقتضٍ للمبالغة. وقوله: { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ليس يريد به طيًّا بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره. وانطوى عنا دهر بمعنى المضي والذهاب. واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك ومنه قوله تعالى:أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 3] يريد به الملك وقاللأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } [الحاقة: 45] أي بالقوّة والقدرة أي لأخذنا قوته وقدرته. قال الفرّاء والمبرد: اليمين القوّة والقدرة. وأنشدا:
إِذا ما رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ   تَلَقَّاهَا عَرابةُ بِالْيَمِينِ
وقال آخر:
ولمّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَق نورُها   تَناولتُ مِنها حاجتِي بِيَمينِ
قتلتُ شُنَيْفاً ثم فارانَ بَعده   وكان على الآيات غيرَ أمينِ
وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضاً لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم كما قال:

السابقالتالي
2 3