فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } يعني القرآن لما قال: { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } بيّن أن أحسن ما يُسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } فقالوا: لو قصصت علينا فنزل:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] فقالوا: لو ذكرتنا فنزل:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الحديد: 16] الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملّوا مَلّة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدِّث. وسمى القرآن حديثاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدّث به أصحابه وقومه، وهو كقوله:{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 185] وقوله:{ أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } [النجم: 59] وقوله:{ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] وقوله:{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } [النساء: 87] وقوله:{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } [القلم: 44] قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فليدل على أن كلامه محدث وهو وهم لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله:{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الربّ تعالى. { كِتَاباً } نصب على البدل من «أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» ويحتمل أن يكون حالاً منه. { مُّتَشَابِهاً } يشبه بعضه بعضاً في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه لما يتضمّنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. ثم وصفه فقال: { مَّثَانِيَ } تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثني للتلاوة فلا يمل. { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي عند آية الرحمة. وقيل: إلى العمل بكتاب الله والتصديق به. وقيل: «إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» يعني الإسلام. الثانية: عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرىء عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإنا أناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خَرّ أحدهم مغشيًّا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: مرّ ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرىء عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.