الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } يعني القرآن لما قال: { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } بيّن أن أحسن ما يُسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } فقالوا: لو قصصت علينا فنزل:نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] فقالوا: لو ذكرتنا فنزل:أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الحديد: 16] الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملّوا مَلّة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدِّث. وسمى القرآن حديثاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدّث به أصحابه وقومه، وهو كقوله:فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 185] وقوله:أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } [النجم: 59] وقوله:إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] وقوله:وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } [النساء: 87] وقوله:فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } [القلم: 44] قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فليدل على أن كلامه محدث وهو وهم لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله:مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الربّ تعالى. { كِتَاباً } نصب على البدل من «أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» ويحتمل أن يكون حالاً منه. { مُّتَشَابِهاً } يشبه بعضه بعضاً في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه لما يتضمّنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. ثم وصفه فقال: { مَّثَانِيَ } تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثني للتلاوة فلا يمل. { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي عند آية الرحمة. وقيل: إلى العمل بكتاب الله والتصديق به. وقيل: «إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» يعني الإسلام. الثانية: عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرىء عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإنا أناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خَرّ أحدهم مغشيًّا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: مرّ ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرىء عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2