الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ» أي من السحاب «مَاءً» أي المطر { فَسَلَكَهُ } أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها كما قال:فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } [المؤمنون: 18]. { يَنَابِيعَ } جمع يَنْبُوع وهو يَفْعُول من نَبَع ينبُع وينبَع وينبِع بالرفع والنصب والخفض. النحاس: وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر:
يَـنْـبَاعُ مِـنْ ذِفْـرَى غَـضُـوبٍ جَسْـرَةٍ   
أن معناه يَنْبَع فأشبع الفتحة فصارت ألفاً، نبوعاً خرج. واليَنْبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في «سبحان». ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض { زَرْعاً } هو للجنس أي زروعاً شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونوراً. قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. { ثُمَّ يَهِـيجُ } أي ييبس. { فَـتَرَاهُ } أي بعد خضرته { مُصْفَـرّاً } قال المبرد قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولّى. قال: وكذلك هاج النبت. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري: هاج النبت هياجاً أي يَبِس. وأرض هائجة يَبس بقْلُها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي فتاتاً مكسراً من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآناً فسلكه في قلوب المؤمنين { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي ديناً مختلفاً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل: هو مثل ضربه الله للدنيا أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }.