الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

قوله تعالى: { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } أي اتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل: المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القُشَيري: والأول أصح لأن الكافر قد نال نعم الدنيا. قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء. { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في «النساء». وقيل: المراد أرض الجنة رغّبهم في سعتها وسعة نعيمها كما قال:وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [آل عمران: 133] والجنة قد تسمى أرضاً قال الله تعالى:وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } [الزمر: 74] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي: يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان. قلت: فتكون الآية دليلاً على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزاً بدرهم. { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تقدير. وقيل: يزاد على الثواب لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل: «بِغَيْرِ حِسَابٍ» أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و«الصَّابِرُونَ» هنا الصائمون دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبراً عن الله عز وجل: " الصوم لي وأنا أجزي به " قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلاً ويوزن وزناً إلا الصوم فإنه يُحْثَى حَثْواً ويُغْرَف غَرْفاً وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلّم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجره. وقال قتادة: لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصبّ عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل "

السابقالتالي
2