الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } * { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } * { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } * { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } * { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ }

فيه أربع وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } «الْخَصْم» يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر. قال الشاعر:
وَخَصْم غِضابٌ يَنْفُضُونَ لِحَاهُمُ   كنفضِ البَرَاذينِ العِرابِ المَخَالِيَا
النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به هاهنا مَلَكان. وقيل: «تَسَوَّرُوا» وإن كانا اثنين حملاً على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعاً له، مثل الركب والصحب. وتقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصمٍ. ومعنى: «تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ» أتوه من أعلى سوره. يقال: تسوّر الحائط تسلّقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السُّوَرُ جمع سورةٍ مثل بُسْرَةٍ وبُسَرٍ وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدّمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة:
ألم تَرَ أنَ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً   تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذب
يريد شرفاً ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة بالفارسي. وفي الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: " إن جابراً قد صنع لكم سؤراً فَحَيَّهلاً بكم " والمحراب هنا الغرفة لأنهم تسوّروا عليه فيها قاله يحيـى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقد مضى القول فيه في غير موضع. { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ } جاءت «إِذْ» مرتين لأنهما فعلان. وزعم الفرّاء: أن إحداهما بمعنى لما. وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبييناً لما قبلها. قيل: إنهما كانا إنسيين قاله النقاش. وقيل: ملَكَين قاله جماعة. وعينهما جماعة فقالوا: إنهما جبريل وميكائيل. وقيل: ملَكَين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته. فمنعهما الحرس الدخول، فتسوّروا المحراب عليه، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين وهو قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب قاله سفيان الثوري وغيره. وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدّث نفسه إن ابتلي أن يعتصم. فقيل له: إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حِذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يَدرُج بين يديه. فهمّ أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها. قال السدّي: فوقعت في قلبه. قال ابن عباس: وكان زوجها غازياً في سبيل الله وهو أورِيا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدّمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدّتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتاباً، وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشَبَّ، وتسوّر الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد