الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } * { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ }

قوله تعالى: { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً } معطوف على الجبال. قال الفراء: ولو قرىء «وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ» لجاز لأنه لم يظهر الفعل. قال ابن عباس: كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال وٱجتمعت إليه الطير فسبحت معه، فٱجتماعها إليه حشرها. فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح اللّه معه. وقيل: أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه، أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور. { كُلٌّ لَّهُ } أي لداود { أَوَّابٌ } أي مطيع أي تأتيه وتسبح معه. وقيل: الهاء للّه عز وجل. قوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي قويناه حتى ثبت. قيل: بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب. وقيل: بكثرة الجنود. وقيل: بالتأييد والنصر. وهذا ٱختيار ابن العربي. فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير مُعانٍ. وقال ٱبن عباس رضي اللّه عنه: كان داود أشدّ ملوك الأرض سلطاناً. كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ٱرجعوا فقد رضي عنكم نبيّ اللّه. والمُلْك عبارة عن كثرة المِلْك، فقد يكون للرجل مِلك ولكن لا يكون ملِكاً حتى يكثر ذلك فلو ملك الرجل داراً وٱمرأة لم يكن ملكاً حتى يكون له خادم يكفيه مؤونة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية. وقد مضى هذا المعنى في «براءة» وحقيقة الملك في «النمل» مستوفى. قوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } فيه مسألتان: الأولى ـ قوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } أي النبوّة قاله السدي. مجاهد: العدل. أبو العالية: العلم بكتاب اللّه تعالى. قتادة: السنة. شريح: العلم والفقه. { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء. وهو قول ٱبن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس: بيان الكلام. عليّ بن أبي طالب: هو البينة على المدّعي واليمين على من أنكر. وقاله شُريح والشَّعْبيّ وقتادة أيضاً. وقال أبو موسى الأشعري والشّعبي أيضاً: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها. وقيل: «فَصْلُ الْخِطَاب» البيان الفاصل بين الحق والباطل. وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول عليّ رضي اللّه عنه يجمعه لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى. الثانية ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي: فأما علم القضاء فَلَعَمْرُ إلٰهِك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكَّد، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ففي الحديث: " أقضاكم عليّ وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " وقد يكون الرجل بصيراً بأحكام الأفعال، عارفاً بالحلال والحرام، ولا يقوم بفصل القضاء. يروى " أن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زُبْية للأسد، فوقع فيها الأسد، وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى صاروا أربعة، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال قال فأتيتهم فقلت: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناس! تعالوا أقض بينكم بقضاء فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بالقضاء. فجعل للأوّل ربع الدية، وجعل للثاني ثلث الدية، وجعل للثالث نصف الدية، وجعل للرابع الدية، وجعل الدياتِ على من حفر الزُّبْيَة على قبائل الأربعة فسخط بعضهم ورضي بعضهم، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة فقال: «أنا أقضي بينكم» فقال قائل: إن علياً قد قضى بيننا. فأخبروه بما قضى عليّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاء كما قضى عليّ» "

السابقالتالي
2 3