الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ }

فيه أربع مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } «يُسَبِّحْنَ» في موضع نصب على الحال، ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر اللّه جل وعز ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال ابن عباس: «يُسَبِّحْنَ» يصلّين. وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دويّ حسن، وما تصغي لحسنه الطير وتصوّت معه، فهذا تسبيح الجبال والطير. وقيل: سخرها اللّه عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها لأنها دالة على تنزيه اللّه عن شبه المخلوقين. وقد مضى القول في هذا في «سبأ» وفي «سبحان» عند قوله تعالى:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44] وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال. واللّه أعلم. بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ الإشراق أيضاً ٱبيضاض الشمس بعد طلوعها. يقال: شَرَقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. فكان داود يسبّح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها. الثانية ـ روي عن ٱبن عباس أنه قال: كنت أمُّر بهذه الآية { بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } ولا أدري ما هي، حتى " حدّثتني أم هانىء أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى صلاة الضحى، وقال: «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق» " وقال عكرمة قال ٱبن عباس: كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ }. قال عكرمة: وكان ٱبن عباس لا يصلّي صلاة الضحى ثم صلاها بعد. وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس: إني أجد في كتب اللّه صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوّابين. فقال ابن عباس: وأنا أوجدك في القرآن ذلك في قصة داود «يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ». الثالثة ـ صلاة الضحى نافلة مستحبة، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشيّ، لا ينبغي أن تصلي حتى تبيض الشمس طالعة ويرتفع كدرها وتشرق بنورها كما لا تصلي العصر إذا ٱصفرّت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرْقَم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الأوّابين حين تَرْمَض الفصالُ " الفصال والفصلان جمع فَصيل، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل. والرمضاء شدّة الحر في الأرض. وخصّ الفصال هنا بالذكر لأنها هي التي تَرْمَض قبل ٱنتهاء شدّة الحر التي تَرْمَض بها أمهاتها لقلة جَلَدها، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل، وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها قاله القاضي أبو بكر بن العربي. ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك ٱستعجالاً، لأجل شغله فيخسر عمله لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له.

السابقالتالي
2