الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }

قوله تعالى: { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر لما ٱستهزءوا به. وهذه منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم، وسلاّه بكل ما تقدّم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء ليتسلى بصبر من صبر منهم وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء. وقيل: المعنى اصبر على قولهم، وٱذكر لهم أقاصيص الأنبياء لتكون برهاناً على صحة نبوّتك. «ذَا الأيْدِ» ذا القوّة في العبادة. وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وذلك أشد الصوم وأفضله وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدوّ، وكان قوياً في الدعاء إلى الله تعالى. وقوله: «عَبْدَنَا» إظهاراً لشرفه بهذه الإضافة. ويقال: الأيْد وَالآدُ كما تقول العيب والعاب. قال:
لمْ يَكُ يَنْآدُ فَأَمْسَى ٱنْآدا   
ومنه رجل أيِّدٌ أي قويّ. وتأَيَّدَ الشيء تقوّى، قال الشاعر:
إذَا القوسُ وَتَّرهَا أَيِّدٌ   رَمَى فأَصابَ الكُلى وَالذُّرا
يقول: إذا اللّه وَتَّر القوس التي في السحاب رَمَى كُلى الإبل وأسنمَتها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. { إِنَّهُ أَوَّابٌ } قال الضحاك: أي توّاب. وعن غيره: أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله ٱستغفر منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأستغفر اللّه في اليوم والليلة مائة مرة " ويقال آب يؤوب إذا رجع كما قال:
وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يؤوبُ   وغائبُ الموت لا يؤوبُ
فكان داود رجَّاعاً إلى طاعة اللّه ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به.