الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } * { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } * { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } * { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } * { وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } * { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ }

قوله تعالى: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } أي سلهم يعني أهل مكة مأخوذ من ٱستفتاء المفتى. { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } قال مجاهد: أي من خلقنا من السموات والأرض والجبال والبحار. وقيل: يدخل فيه الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية. يدلّ على ذلك أنه أخبر عنهم «بمَن» قال سعيد بن جبير: الملائكة. وقال غيره: «مَنْ» الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشدّ خلقاً منهم. نزلت في أبي الأشد بن كَلَدَة، وسمي بأبي الأشد لشدّة بطشه وقوّته. وسيأتي في «البلد» ذكره. ونظير هذه:لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57] وقوله:أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ } [النازعات: 27]. { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } أي لاصق قاله ٱبن عباس. ومنه قول عليّ رضي الله عنه:
تَعَلَّمْ فَإنّ الله زادكَ بَسطةً   وأخلاقَ خيرٍ كلُّها لكَ لاَزِبُ
وقال قتادة وٱبن زيد: معنى «لاَزِبٍ» لازق. الماوردي: والفرق بين الّلاصق والّلازق أن الّلاصق: هو الذي قد لُصق بعضه ببعض، واللاّزق: هو الذي يلتزق بما أصابه. وقال عِكرمة: «لاَزِبٍ» لزج. سعيد بن جبير: أي جيد حرّ يلصق باليد. مجاهد: «لاَزِب» لازم. والعرب تقول: طينٌ لازِب ولازِم، تبدل الباء من الميم. ومثله قولهم: لاتب ولازِم. على إبدال الباء بالميم. واللازب الثابت تقول: صار الشيء ضَرْبةَ لازبٍ، وهو أفصح من لازم. قال النابغة:
ولا تَحْسَبُونَ الخيَر لا شَرَّ بعدَهُ   ولا تَحْسَبُونَ الشرَّ ضربةَ لاَزِبِ
وحكى الفرّاء عن العرب: طين لاتب بمعنى لازِم. واللاتِب الثابت تقول منه: لَتَب يَلْتُب لَتْباً ولُتُوباً، مثل لَزَب يَلْزُب بالضم لزوباً وأنشد أبو الجرّاح في اللاتب:
فإن يَكُ هذا من نَبيذٍ شِربْتُهُ   فإنِّي من شربِ النَّبيذِ لَتَائِبُ
صُدَاعٌ وَتَوْصيمُ العِظَامِ وفَتْرَةٌ   وغَمٌّ مع الإشْرَاقِ في الْجَوفِ لاَتِبُ
والّلاتب أيضاً: الّلاصق مثل الّلازب، عن الأصمعي حكاه الجوهري. وقال السدي والكلبي في الّلازب: إنه الخالص. مجاهد والضحاك: إنه المنتن. قوله تعالى: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به. وهي قراءة شُرَيح وأنكر قراءة الضم وقال: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم. وقيل: المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً بضم التاء. وٱختارها أبو عبيد والفرّاء، وهي مروية عن عليّ وٱبن مسعود رواها شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: «بَلْ عجِبْتُ» بضم التاء. ويروى عن ٱبن عباس. قال الفرّاء في قوله سبحانه: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } قرأها الناس بنصب التاء ورفعها، والرفع أحبّ إليّ لأنها عن علي وعبد الله وٱبن عباس. وقال أبو زكريا الفراء: العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد وكذلك قوله:

السابقالتالي
2 3