الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } * { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } فيه أربع مسائل: الأولى: أخبر تعالى عن حال نبيّه صلى الله عليه وسلم، وردّ قول من قال من الكفار إنه شاعر، وإن القرآن شعر، بقوله: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزِنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم. من ذلك أنه أنشد يوماً قول طرفة:
سَتُبدِي لكَ الأيام ما كنتَ جاهلاً   ويأتيكَ من لم تزوّدْه بالأخبار
وأنشد يوماً وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول:
ألم ترياني كلّما جئت طارقاً   وجدتُ بها وإن لم تطيَّب طيبَا
وأنشد يوماً:
أتجعلُ نَهْبي وَنْهبَ العبـ   ـيدِ بين الأقرعِ وعُيَيْنَة
وقد كان عليه السلام ربما أنشد البيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبد الله بن رواحة:
يَبيتُ يُجافي جَنْبَهُ عن فراشهِ   إذا ٱستثقلت بالمشركين المضاجِعُ
وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النبي عليه السلام:
كَفَى بالإسلام والشيبِ للمرء ناهياً   
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنما قال الشاعر:
هريرةَ ودِّعْ إن تَجهزْتَ غاديا   كَفَى الشيبُ والإسلامُ للمرء نَاهيَا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ }. وعن الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتَّى له. الثانية: إصابته الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحياناً من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حُنين وغيره:
هل أنتِ إلا إصبعٌ دَمِيتِ   وفي سبيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ
وقوله:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ   أنا ٱبن عبدِ المطلبْ
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام وليس ذلك شعراً ولا في معناه كقوله تعالى:لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92]، وقوله:نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [الصف: 13]، وقوله:وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [سبأ: 13] إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكر ٱبن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قوله: «أنا النبيّ لا كَذِبْ» ليس بشعر. وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعراً. وروي عنه أنه من منهوك الرَّجَز. وقد قيل: لا يكون من منهوك الرجز بالوقف على الباء من قوله: «لا كذب»، ومن قوله: «عبد المطلب». ولم يعلم كيف قاله النبي صلى الله عليه وسلم. قال ٱبن العربي: والأظهر من حاله أنه قال «لا كَذِبُ» الباء مرفوعة، وبخفض الباء من عبد المطلبِ على الإضافة.

السابقالتالي
2 3