الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } * { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ }

قوله تعالى: { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } «ما» لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير، منهم قتادة لأنها نفي والمعنى: لتنذر قوماً ما أتى آباءهم قبلك نذير. وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضاً. وقيل: إن «ما» والفعل مصدر أي لتنذر قوماً إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء فالمعنى لم ينذَروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونَسُوا. ويجوز أن يكون هذا خطاباً لقوم لم يبلغهم خبر نبيّ، وقد قال الله:وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } [سبأ: 44] وقال:لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [سجدة: 3] أي لم يأتهم نبيّ. وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك، ويقال للمعرض عن الشيء إنه غافل عنه. وقيل: { فَهُمْ غَافِلُونَ } عن عقاب الله. قوله تعالى: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } أي وجب العذاب على أكثرهم { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره. ثم بيّن سبب تركهم الإيمان فقال: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً }. قيل: نزلت في أبي جهل ٱبن هشام وصاحبيه المخزوميين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنّ رأسه بحجر فلما رآه ذهب فرفع حجراً ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من غُلَّت يدُه إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضَخ رأسه. فأتاه وهو يصلّي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشدخنّ أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وٱنطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خَرَّ على قفاه مغشيّا عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال شأني عظيم! رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فَحْل يَخطِر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فوالَّلاتِ والعُزّى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ }. وقرأ ابن عباس: «إِنَّا جَعَلْنَا فيِ أَيْمَانِهِمْ». وقال الزجاج: وقرىء «إِنَّا جَعَلْنَا فيِ أَيْدِيهِم». قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا.

السابقالتالي
2