الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } * { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } * { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } * { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بيّنا في سورة «النمل» أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. وروى المبارك بن فضالة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين النفختين أربعون سنة: الأولى يميت الله بها كلّ حيّ، والأخرى يحيي الله بها كل ميّت " وقال قتادة: الصُّور جمع صُورَة أي نفخ في الصور والأرواح. وصُورَة وصُور مثل سُورَة البناء وسُور قال العَجَّاج:
ورُبَّ ذِي سُرَادِقٍ مَحْجُورِ   سِرْتُ إليهِ في أَعالِي السُّورِ
وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ: «وَنُفِخَ فيِ الصُّورِ». النحاس: والصحيح أن «الصور» بإسكان الواو: القَرْن جاء بذلك التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة:
نحنُ نَطَحْنَاهُمْ غَداةَ الْغُورَيْن   بالضَّابِحاتِ في غُبَار النَّقْعَيْن
نَطْحًا شديداً لا كَنَطْحِ الصُّورَيْن   
وقد مضى هذا في «الأنعام» مستوفًى. { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي القبور. وقرىء بالفاء «مِنَ الأَجْدَافِ» ذكره الزمخشري. يقال: جَدَثٌ وَجَدَفٌ. واللغة الفصيحة الجدث بالثاء والجمع أَجْدُث وأجداث قال المتنخِّل الهذليّ:
عَرفتُ بأَجْدُثٍ فنِعافِ عِرْقٍ   عَلاَماتٍ كتَحبِير النِّمَاطِ
وٱجتدثَ: أي ٱتخذ جَدَثاً. { إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } أي يخرجون قاله ٱبن عباس وقتادة. ومنه قول ٱمرىء القيس:
فَسُلِّي ثِيابي منْ ثِيَابِكِ تَنْسُليِ   
ومنه قيل للولد نَسْل لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. والنَّسَلان والعَسَلان: الإسراع في السير، ومنه مشية الذئب قال:
عسَلانَ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِباً   بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ
يقال: عَسَل الذئبُ ونَسَل، يَعْسِل ويَنْسِل، من باب ضرب يضرب. ويقال: يَنسُل بالضم أيضاً. وهو الإسراع في المشي فالمعنى يخرجون مسرعين. وفي التنزيل:مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان: 28]، وقال:يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [القمر: 7]، وفيسَأَلَ سَآئِلٌ } [المعارج: 1]:يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج: 43] أي يسرعون. وفي الخبر: شكونا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الضعف فقال «عليكم بالنَّسْل» أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط. قوله تعالى: { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا } قال ٱبن الأنباري: «يَاوَيْلَنَا» وقف حسن ثم تبتدىء { مَن بَعَثَنَا }. وروي عن بعض القراء «يَاوَيْلَنَا مِنْ بَعْثِنَا» بكسر مِنْ والثاء من البعث. روي ذلك عن عليّ رضي الله عنه فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله: { يٰوَيْلَنَا } حتى يقول { مِن مَّرْقَدِنَا }. وفي قراءة أبيّ بن كعب «مَنْ هَبَّنَا» بالوصل «مِنْ مَرْقَدِنَا» فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي: قرأ ٱبن أبي ليلى: «قَالُوا يَاوَيْلَتَنَا» بزيادة تاء وهو تأنيث الويل، ومثله:يٰوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } [هود: 72]. وقرأ عليّ رضي الله عنه «يَاوَيْلَتَا مِنْ بَعثِنَا» فـ «ـمن» متعلقة بالويل أو حال من «ويلتا» فتتعلق بمحذوف كأنه قال: يا ويلتا كائناً مِن بعثنا وكما يجوز أن يكون خبراً عنه كذلك يجوز أن يكون حالاً منه.

السابقالتالي
2 3