الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }

قوله تعالى: { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ } رفعت «الشمس» بالابتداء، ولا يجوز أن تعمل «لا» في معرفة. وقد تكلم العلماء في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: معناها أن الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه. أي لكل واحد منهما سلطان على حياله، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدّم في آخر سورة «الأنعام» بيانه. وقيل: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. روي معناه عن ٱبن عباس والضحاك. وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال قتادة: لكلٍّ حدّ وعَلَم لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. وقال الحسن: إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة. أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غرَبت الشمس طلع القمر. يحيى بن سلاّم: لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها. وقيل: معناه إذا ٱجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها قاله ٱبن عباس أيضاً. وقيل: القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يُدفَع: أن سير القمر سيْر سريع والشمس لا تدركه في السير ذكره المهدوي أيضاً. فأما قوله سبحانه:وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [القيامة: 9] فذلك حين حَبْس الشمس عن الطلوع على ما تقدّم بيانه في آخر «الأنعام» ويأتي في سورة «القيامة» أيضاً. وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة. { وَكُلٌّ } يعني من الشمس والقمر والنجوم { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يجرون. وقيل: يدورون. ولم يقل تسبح لأنه وصفها بفعل من يعقل. وقال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصَقة ولو كانت ملصقة ما جرت ذكره الثعلبي والماوردي. وٱستدلّ بعضهم بقوله تعالى: { وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بخلق. وقيل: كل واحد منهما يجيء وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة كما قال { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد.وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [الإسراء: 12] ويكون الليل للإجمام والاستراحة، والنهار للتصرف كما قال تعالى:وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [القصص: 73] وقال:وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [النبأ: 9] أي راحة لأبدانكم من عمل النهار. فقوله: { وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } أي غالب النهار يقال: سبق فلان فلاناً أي غلبه. وذكر المبّرد قال: سمعت عمارة يقرأ «وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ» فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابِقٌ النهارَ فحذفت التنوين لأنه أخفّ. قال النحاس: يجوز أن يكون «النهارَ» منصوباً بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين.