الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } * { ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً }

قوله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، فلَعنوا مَن كذّب نبيَّه منهم، وأقسموا بالله جلّ اسمه { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } أي نبيّ { لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } يعني ممن كذّب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل، فلما جاءهم ما تمنَّوْه وهو النذير من أنفسهم، نفروا عنه ولم يؤمنوا به. { ٱسْتِكْبَاراً } أي عُتُوًّا عن الإيمان { وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ } أي مكر العمل السيىء وهو الكفر وخَدْع الضعفاء، وصدّهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم. وأنّث «مِن إِحدى الأمم» لتأنيث أُمّة قاله الأخفش. وقرأ حمزة والأخفش «ومكر السَّيِّىء وَلا يَحِيق الْمَكْرُ السَّيِّىءُ» فحذف الإعراب من الأوّل وأثبته في الثاني. قال الزجاج: وهو لحن وإنما صار لحناً لأنه حذف الإعراب منه. وزعم المبرِّد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها، لأنها دخلت للفرق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا، قال: إنما كان يقف عليه، فغلط من أدّى عنه، قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق، والحركة في الثاني أثقل منها في الأوّل لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره:
إذا اعـوجـجـن قـلـتُ صاحِـبْ قَـوِّمِ   
وقال الآخر:
فاليوم أشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ   إثماً مِن الله ولا واغلِ
وهذا لا حجة فيه لأن سيبويه لم يجزه، وإنما حكاه عن بعض النحويين، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه. وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده:
إذا اعـوجـجـن قـلـت صـاح قـوّم   
وأنه أنشد:
فـالـيـوم اشـرب غيـر مستـحقِـبٍ   
بوصل الألف على الأمر ذكر جميعه النحاس. الزمخشريّ: وقرأ حمزة «ومكر السَّيّىءْ» بسكون الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات، ولعله اختلس فظن سكوناً، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ «ولا يحِيق». وقرأ ابن مسعود «ومَكْراً سيئاً». وقال المهدويّ: ومن سكّن الهمزة من قوله: { وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ } فهو على تقدير الوقف عليه، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات، كما قال:
فـالـيـوم اشـرب غيـر مستـحقـب   
قال القشيريّ: وقرأ حمزة «ومكر السيىءْ» بسكون الهمزة، وخطّأه أقوام. وقال قوم: لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام، فغلط الراوي وروي ذلك عنه في الإدراج، وقد سبق الكلام في أمثال هذا، وقلنا: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بدّ من جوازه، ولا يجوز أن يقال: إنه لحن، ولعل مراد من صار إلى التخطئة أن غيره أفصح منه، وإن كان هو فصيحاً.

السابقالتالي
2