الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } هذه الرؤية رؤية القلب والعلم أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل فـ«ـأنّ» واسمها وخبرها سدّت مسدّ مفعولي الرؤية. { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } هو من باب تلوين الخطاب. { مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } نصبت «مُخْتَلِفاً» نعتاً لـ«ـثَمَرَاتٍ». { أَلْوَانُهَا } رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتاً لـ«ـثَمَرَات» لما عاد عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه ومثله رأيت رجلاً خارجاً أبوه. { بِهِ } أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } الجدد جمع جُدّة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجراً أو تراباً. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جُدُد بضم الجيم والدال نحو سرير وسرر وقال زهير:
كأنه أسفع الخدّين ذو جُدُد   طاوٍ ويرتع بعد الصيف عُريانا
وقيل: إن الجدد القِطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته حكاه ابن بحر. قال الجوهريّ: والجُدَّة الخُطّة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجُدّة الطريقة، والجمع جدد قال تعالى: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جُدَّةً من الأمر إذا رأى فيه رأياً. وكساء مجدّد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهريّ «جدد» بالضم جمع جديدة، وهي الجدّة يقال: جديدة وجُدُد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسّر بها قول أبي ذُؤيب:
جَـوْن السَّـراة لـه جـدائـد أربـعُ   
وروي عنه «جَدَد» بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ } وقرِىء: «والدواب» مخففاً. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: «وَلاَ الضّألين» لأن كل واحد منهما فرّ من التقاء الساكنين، فحرّك ذلك أوّلهما، وحذف هذا آخرهما قاله الزمخشريّ. { وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: «مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ» فذكَّر الضمير مراعاة لـ«ـمن» قاله المؤرِّج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى «ما» مضمرة مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه، أي أبيض وأحمر وأسود. { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قال أبو عبيدة: الغِربيب الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلاً من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض الشيخ الغربيب " يعني الذي يخضِب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة   والرِّجْل لافحة والوجه غربيب

السابقالتالي
2