الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ }

قوله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها لأن العزة إذا كانت تؤدّي إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلّة، والعزةُ التي لا ذُلّ معها لله عز وجل. { جَمِيعاً } منصوب على الحال. وقدّر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزّةَ ـ والعزة له سبحانه ـ فإن الله عز وجل يُعِزه في الآخرة والدنيا. قلت: وهذا أحسن، وروي مرفوعاً على ما يأتي. { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره فتكون الألف واللام للعهد عند العالمِين به ـ سبحانه ـ وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس:وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ } [يونس: 65]. ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبّه ذوي الأقدار والهمم مِن أين تنال العزة ومن أين تُستحق فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده ـ إن شاء الله ـ غير ممنوعة ولا محجوبة عنه قال صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لله رفعه الله " ومن طلبها من غيره وَكَله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوماً طلبوا العزة عند من سواه فقال:ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [النساء: 139]. فأنبأك صريحاً لا إشكال فيه أن العزة له يُعِزّ بها من يشاء ويُذِل من يشاء. وقال صلى الله عليه وسلم مفسّراً لقوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً }: " من أراد عز الدارين فليطع العزيز " وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من قال:
وإذا تذلّلت الرقاب تواضعاً   منا إليك فعزّها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ـ ولله العزة ـ فليقصِد بالعزة الله سبحانه والاعتزازَ به فإنه من اعتز بالعبد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله. قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } وتم الكلام. ثم تبتدىء { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب فيكون الكلام متصلاً على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضاً. ولا يتصوّر ذلك في الكلام لأنه عَرض، لكن ضرب صعوده مثلاً لقبوله لأن موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل.

السابقالتالي
2 3