الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }

قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } تمم الحجة على المشركين أي قل لهم يا محمد: { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ } أي أذكّركم وأحذّركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. { بِوَاحِدَةٍ } أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك وإثبات الإلٰه. قال مجاهد: هي لا إلٰه إلا الله وهذا قول ابن عباس والسّدي. وعن مجاهد أيضاً: بطاعة الله. وقيل: بالقرآن لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، ثم بينها بقوله: { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } فتكون «أَنْ» في موضع خفض على البدل من «وَاحِدَة»، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضدّ القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى:وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىٰ بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 127]. { مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } أي وُحداناً ومجتمعين قاله السّديّ. وقيل: منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره، وهذا قول مأثور. وقال القُتَبِيّ: مناظراً مع غيره ومفكّراً في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعاً أن المَثْنَى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معانٌ وفي الليل وحيد، قاله الماوردي. وقيل: إنما قال: «مَثْنَى وَفُرَادَى» لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلاً أوفرهم حظاً من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مَثْنَى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد والله أعلم. { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا». وقيل: ليس هو بوقف، لأن المعنى ثم تتفكروا هل جرَّبتم على صاحبكم كذباً، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدّعي العلم بالسحر أو تعلّم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } وفي صحيح مسلم " عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } «ورَهْطَكَ مِنهمْ المُخْلصِين» خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعِد الصَّفا فهتف: يا صباحاه؟ فقالوا: من هذا الذي يهْتِفٰ؟ قالوا: محمد فاجتمعوا إليه فقال: «يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب ـ فاجتمعوا إليه فقال ـ أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيّ»؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد». قال فقال أبو لهب: تَبًّا لك! أمَا جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } " كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.