الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } * { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يريد كفار قريش. { لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } قال سعيد عن قتادة: «وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل من الآخرة. وقال ابن جُريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم. ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال { وَلَوْ تَرَىٰ } يا محمد { إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين. وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً. ثم ذكر أيّ شيء يرجع من القول بينهم فقال: { يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ } في الدنيا من الكافرين { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } وهم القادة والرؤساء { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي أغويتمونا وأضللتمونا. واللغة الفصيحة «لَوْلاَ أَنْتُمْ» ومن العرب من يقول: «لولاكم» حكاها سيبويه تكون «لَوْلا» تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره. ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز «لولاكم» لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعاً بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضاً مرفوعاً. { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ } هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى، ولا أكرهناكم. { بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أي مشركين مصرين على الكفر. { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يَمكُرُ فهو ماكر ومَكّار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى ـ والله أعلم ـ بل مكركم في الليل والنهار، أي مسارّتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدّنا فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى:إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [نوح: 4] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال:فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } [الأعراف: 34] إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:
لقد لُمْتِنَا يا أمَّ غَيْلان في السُّرَى   ونمِت وما ليلُ المَطِيّ بنائم
وأنشد سيبويه:
فـنـام ليـلـي وتـجـلّـى هـمـي   
أي نمت فيه. ونظيره:وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً } [غافر: 61]. وقرأ قتادة: «بل مَكْرٌ الليلَ والنهارَ» بتنوين «مكر» ونصب «الليل والنهار»، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف.

السابقالتالي
2