الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }

فيه ثماني مسائل: الأولى: قوله تعالى: { مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلَّى فيه: محراب لأنه يجب أن يرفع ويعظّم. وقال الضحاك: «مِنْ مَحَارِيبَ» أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرتُ أوانساً   كغِزلان رَمْل في محاريبِ أقيالِ
وقال عَدِيّ بن زيد:
كدُمَى العاج في المحاريب أو كالـ   ـبَيْض في الروْض زهره مستنيرُ
وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة كما قال:إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [صۤ: 21] وقوله:فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } [مريم: 11] أي أشرف عليهم. وفي الخبر «أنه أمر أن يعمل حول كرسيّه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يَصْرخون إلى الله دائباً، وهو على الكرسي في موكِبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبّحوا الله إلى ذلك العَلَم، فإذا بلغوه قال: هلّلوه إلى ذلك العَلَم، فإذا بلغوه قال: كبّروه إلى ذلك العَلَم الآخر، فتَلِجّ الجنود بالتسبيح والتهليل لَجَّةً واحدة. الثانية: قوله تعالى: { وَتَمَاثِيلَ } جمع تمثال. وهو كل ما صُوّر على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهاداً، قال صلى الله عليه وسلم: " إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنَوْا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصُّورَ " أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحاً في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة «نوح» عليه السلام. وقيل: التماثيل طِلَّسْمات كان يعملها، ويحرم على كل مصوّر أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالاً للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزوه فلا يتجاوزه واحد أبداً ما دام ذلك التمثال قائماً. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رُبَّ يومٍ قد لهَوْتُ وليلةٍ   بآنسة كأنها خطّ تمثالِ
وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يَحِيك فيهم السلاح. ويقال: إن اسفنديار كان منهم والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النَّسران أجنحتهما. الثالثة: حكى مكيّ في الهداية له: أن فرقة تجوّز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوّزه. قلت: ما حكاه مكيّ ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولِمَا أخبر الله عز وجل عن المسيح.

السابقالتالي
2 3 4 5