الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }

قوله تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ } قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: «الرِّيحُ» بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيداً درهماً ولعمرو دينار فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار. وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فَيقِيل بإصْطَخْر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصْطَخر ويبيت بكابُل، وبينهما شهر للمسرع. قال السُّدّيّ: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسيّ، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سِفْلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الجن مما يلي سِفْلة الإنس، وجلس سِفْلة الجن مما يليهم، ومُوكّل بكل كرسيّ طائر لعملٍ قد عرفه، ثم تقلّهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: «غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ». وقال وهب بن منبّه: ذكر لي أن منزلاً بناحية دِجْلة مكتوباً فيه ـ كتبه بعض صحابة سليمان إمّا من الجن وإما من الإنس ـ: نحن نزلنا وما بنيناه، ومَبْنيّاً وجدناه، غُدُوّنا من إصْطَخْر فَقِلْناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام. وقال الحسن: شغلت سليمانَ الخيلُ حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيراً منها وأسرع، أبدله الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوّها شهر ورواحها شهر. وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تَدْمُر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصُّفَاح والعَمَد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:
إلاّ سليمانَ إذ قال الإلٰه له   قُمْ في البرِيّة فاحدُدْها عن الفَنَد
وَخَيِّس الجن إني قد أذنت لهم   يبنون تَدْمر بالصُّفّاح والعَمَد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته   كما أطاعك وادْلُلْه على الرشد
ومن عصاك فعاقِبْه معاقبةً   تَنْهَى الظَّلومَ ولا تَقْعُد على ضَمَد
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يَشْكُر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حولٌ سوى حولِ ربّنا   نروح إلى الأوطان من أرض تَدْمُرِ
إذا نحن رُحْنا كان رَيْثُ رواحِنا   مسيرةَ شهرٍ والغُدُوُّ لآخَرِ
أناسٌ شرَوْا لله طوْعاً نفوسَهم   بنصر ابن داودَ النبيِّ المطهَّرِ
لهم في معالي الدِّين فضلٌ ورفعة   وإن نُسِبُوا يوماً فمن خير مَعْشَرِ
متى يركبوا الريح المطيعةَ أسرعتْ   مبادِرةً عن شَهْرها لم تُقَصِّرِ
تظلّهُم طيرٌ صفوفٌ عليهمُ   متى رَفْرَفَتْ من فوقهم لم تُنَفَّرِ

السابقالتالي
2