الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ }

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً } بيّن لمنكري نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمراً بِدْعاً، بل أرسلنا الرسل وأيّدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. { آتَيْنَا } أعطينا. { فَضْلاً } أي أمراً فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأوّل: النبوّة. الثاني: الزبور. الثالث: العلم، قال الله تعالى:وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } [النمل: 15]. الرابع: القوّة، قال الله تعالى:وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا ٱلأَيْدِ } [صۤ: 17]. الخامس: تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ }. السادس: التوبة، قال الله تعالى:فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } [صۤ:25]. السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى:يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } [صۤ: 26] الآية. الثامن: إِلاَنَة الحديد، قال تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ }. التاسع: حسن الصوت، وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى:يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1] على ما يأتي إن شاء الله تعالى. و " قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى:«لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود» " قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سمّيت آلة الزمر مزماراً. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع، وقد مضى هذا في مقدّمة الكتاب والحمد لله. قوله تعالى: { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي وقلنا يا جبال أوّبي معه، أي سبّحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى:إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [صۤ: 18]. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحاً كما خلق الكلام في الشجرة، فَيُسمع منها ما يُسمع من المسبّح معجزةً لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سِيري معه حيث شاء من التأويب الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل. قال ابن مقبل:
لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعدما   دفعنا شُعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: «أَوِّبِي مَعَهُ» أي رجِّعي معه من آب يؤوب إذا رجع، أَوْباً وأوْبة وإياباً. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبّه: المعنى نوحِي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. فصَدَى الجبالِ الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة فأيّد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فَتْرة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرّك، وقوي بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفاً لصوته.

السابقالتالي
2