الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } * { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } * { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ } الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ } قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة. كما قال:
إلى الملك القَرْم وابن الهمام   ولَيْثِ الكَتيبة في المُزْدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليثِ الكتيبة، وقد مضى في «البقرة». وقيل: كان منهم قوم يُرجفون، وقوم يتبعون النساء للرِّيبة، وقوم يشكّكون المسلمين. قال عكرمة وشَهْر بن حَوْشَب: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» يعني الذين في قلوبهم الزنى. وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء. وقال سلمة بن كُهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب. وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبّر عنهم بلفظين دليله آية المنافقين في أول سورة «البقرة». والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوّهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدوّ قد أتاكم، قاله قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصُّفّة قوم عزّاب، فهم الذين يتعرّضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حُبًّا للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حُبًّا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض ـ أي تحرّكت وتزلزلت ـ ترجُف رَجْفا. والرَّجَفان: الاضطراب الشديد. والرَّجَاف: البحر، سُمي به لاضطرابه. قال الشاعر:
المُطعِمون اللّحم كلّ عشيّة   حتى تَغيب الشمسُ في الرَّجاف
والأرجاف: واحدُ أراجيف الأخبار. وقد أرجَفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر:
فإنا وإن عيّرتمونا بقتله   وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ
وقال آخر:
أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعِدني   وفي الأراجيف خِلت اللؤمُ والخور
فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية. فدلّت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف. الثانية: قوله تعالى: { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي لنسلطنّك عليهم فتستأصلهم بالقتل. وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل:وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } [التوبة: 84] وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء وقال محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل: { أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }. فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " خمس يُقتلن في الحِلّ والحَرَم "

السابقالتالي
2