الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }

قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَقَرْنَ } قرأ الجمهور «وَقِرن» بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار تقول وقَرَ يَقِر وَقاراً أي سكن، والأمر قِرْ، وللنساء قِرْن، مثل عِدْن وزِنّ. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار تقول: قَرَرَت بالمكان بفتح الراء أقِرّ، والأصل أقْرِرن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفاً كما قالوا في ظَلَلت: ظِلت، ومَسَسْت: مِسْت، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو عليّ: بل على أن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه فالتقدير: إقْيِرْن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير «قِرْن». وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قرِرت في المكان إذا أقمت فيه بكسر الراء أَقَرّ بفتح القاف من باب حمِد يَحْمَد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في «الغريب المصنف» عن الكسائي، وهو من أجلّ مشايخه، وذكرها الزجاج وغيره، والأصل «إِقْرَرْن» حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف فتقول: قَرْن. قال الفراء: هو كما تقول: أَحَسْتَ صاحبك أي هل أَحْسَسْت. وقال أبو عثمان المازني: قَرِرت به عيناً بالكسر لا غير، من قُرّة العين. ولا يجوز قَرِرت في المكان بالكسر وإنما هو قَرَرت بفتح الراء، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيستدلّ بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة. وذهب أبو حاتم أيضاً أن «قَرْن» لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: وأمّا قول أبي حاتم: «لا مذهب له» فقد خولف فيه، وفيه مذهبان: أحدهما ما حكاه الكِسائي، والآخر ما سمعت عليّ بن سليمان يقول، قال: وهو من قَرِرْتُ به عَيْناً أَقَر، والمعنى: واقررن به عَيْناً في بيوتكن. وهو وجه حسن إلا أن الحديث يدلّ على أنه من الأول. كما روي أن عماراً قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تَقَرِّي في منزلك فقالت: يا أبا اليَقْظان، ما زلتَ قوّالاً بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وقرأ ابن أبي عَبْلة «واقْرِرن» بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة. الثانية: معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ما تقدم في غير موضع.

السابقالتالي
2 3