الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } * { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }

فيه ثماني مسائل: الأولى: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدّم من المنع من إيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنَه شيئاً من عرَض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: آذَيْنَه بغيْرة بعضهنّ على بعض. وقيل: أمِر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهنّ بين الدنيا والآخرة. وقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: إن مَنْ مَلَك زوجة فليس عليه تخييرها. أمِر صلى الله عليه وسلم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملِكاً وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيًّا مِسكيناً فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخيّر زوجاته فربما كان فيهنّ من يكره المقام معه على الشدّة تنزيهاً له. وقيل: إن السبب الذي أُوجِب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حَلْقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب ـ وقيل بالزعفران ـ فأبت إلا أن تكون من ذهب فنزلت آية التخيير فخيَّرهنّ، فقلن اخترنا الله ورسوله. وقيل: إن واحدة منهنّ اختارت الفراق. فالله أعلم. روى البخاريّ ومسلم ـ واللفظ لمسلم ـ " عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: ـ فأذِن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذِن له، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ـ قال: ـ فقال والله لأقولنّ شيئاً أضحك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها فَوَجَأْتُ عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هنّ حولي كما ترى يسألنَني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يَجَأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده!! فقلن: واللَّهِ لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده. ثم اعتزلهنّ شهراً أو تسعاً وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ـ حتى بلغ ـ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }. قال: فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة، إني أريد أن أعرِض عليك أمراً أحِبُّ ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: «لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إنّ الله لم يبعثني مُعَنتاً ولا مُتَعنِّتاً ولكن بعثني معلماً مُيَسِّراً» "

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8