الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ }

قوله تعالى: { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } «إِذْ» في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا «وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ». «مِنْ فَوْقِكُمْ» يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عَوْف بن مالك في بني نصر، وعيينة بن حِصْن في أهل نجد، وطُليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جَحْش على قريش، وجاء أبو الأعور السُّلَمي ومعه حُيَيُّ بن أخطب اليهودي في يهود بني قُريظة مع عامر بن الطُّفَيل من وجه الخندق. { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ } أي شَخُصت. وقيل: مالت فلم تلتفت إلا إلى عدوّها دَهَشاً من فرط الهَوْل. { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد قال:
إذا ما غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَرِيَّة   هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دَمَا
أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلاً ولهذا يقال للجبان: انتفخ سَحْره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدّة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدّة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحُنجور بزيادة النون حرف الحلق. { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يُنصرون. وقيل: هو خطاب للمنافقين أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القرّاء في قوله تعالى: «الظُّنُونَا، والرسولا، والسبيلا» آخر السورة فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو والكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها قال:
نحن جلبنا القُرّح القوافِلاَ   تستنفر الأواخرُ الأوائلا
وقرأ أبو عمرو والجحدرِيّ ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معاً. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى:ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } [التوبة: 47] فكتبوها كذلك، وغير هذا. وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه. قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ: «الظنون. والسبيل. والرسول» بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطّهن في المصحف بألف لأن الألف التي في «أطعنا» والداخلة في أوّل «الرسول.

السابقالتالي
2