الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } * { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

قوله تعالى: { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «خَلْقَهُ» بإسكان اللام. وفتحها الباقون. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم طلباً لسهولتها. وهو فعل ماضٍ في موضع خفض نعت لـ«ـشيء». والمعنى على ما روي عن ابن عباس: أحكم كلّ شيء خلَقه، أي جاء به على ما أراد، لم يتغيّر عن إرادته. وقول آخر: أن كل شيء خلقه حسن لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله وهو دالّ على خالقه. ومن أسكن اللام فهو مصدر عند سيبويه لأن قوله: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } يدلّ على: خَلَق كلّ شيء خَلْقاً فهو مثل:صُنْعَ ٱللَّهِ } [النمل: 88] وكِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء: 24]. وعند غيره منصوب على البدل من «كلّ» أي الذي أحسن خلق كل شيء. وهو مفعول ثانٍ عند بعض النحويين، على أن يكون معنى: «أَحْسَنَ» أفهم وأعلم فيتعدّى إلى مفعولين، أي أفهم كل شيء خلقه. وقيل: هو منصوب على التفسير والمعنى: أحسن كل شيء خلقاً. وقيل: هو منصوب بإسقاط حرف الجر، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه. وروي معناه عن ابن عباس و { أَحْسَنَ } أي أتقن وأحكم فهو أحسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها. ومن هذا المعنى قال ابن عباس وعكرمة: ليست اسْت القرد بحسنة، ولكنها متقَنة محكمة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد «أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» قال: أتقنه. وهو مثل قوله تبارك وتعالى:ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } [طه: 50] أي لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة، ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان. ويجوز: «خلقه» بالرفع على تقدير ذلك خلقه. وقيل: هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى والمعنى: حسّن خَلْق كل شيء حَسَنٍ. وقيل: هو عموم في اللفظ والمعنى، أي جعل كل شيء خلقه حسناً، حتى جعل الكلب في خلقه حسناً قاله ابن عباس. وقال قتادة: في اسْت القرد حسنة. قوله تعالى: { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } يعني آدم. { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } تقدّم في «المؤمنون» وغيرها. وقال الزجاج: «مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ» ضعيف. وقال غيره: «مَهِينٍ» لا خطر له عند الناس. { ثُمَّ سَوَّاهُ } رجع إلى آدم، أي سوّى خلقه. { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } ثم رجع إلى ذرِّيته فقال: { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ }. وقيل: ثم جعل ذلك الماء المَهين خلقاً معتدلاً، وركّب فيه الروح وأضافه إلى نفسه تشريفاً. وأيضاً فإنه من فعله وخلقه كما أضاف العبد إليه بقوله: «عَبْدي». وعبّر عنه بالنفخ لأن الروح في جنس الريح. وقد مضى هذا مبيَّناً في «النساء» وغيرها. { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي ثم أنتم لا تشكرون بل تكفرون.