الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }

قوله تعالى: { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } أي ترتفع وتَنْبُو عن مواضع الاضطجاع. وهو في موضع نصب على الحال أي متجافية جنوبهم. والمضاجع جمع مضجع وهي مواضع النوم. ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز، والحقيقة أوْلى. ومنه قول عبد الله بن رَوَاحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه   إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه   إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الزّجاج والرُّمانِيّ: التّجافي التنحِّي إلى جهة فوق. وكذلك هو في الصفح عن المخطىء في سَبٍّ ونحوه. والجُنوب جمع جنب. وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله تعالى، إمّا في صلاة وإما في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: للصلاة. وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التّنفّل بالليل قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وهو قول مجاهد والأوزاعيّ ومالك بن أنس والحسن بن أبي الحسن وأبي العالية وغيرهم. ويدلّ عليه قوله تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } لأنهم جُوزُوا على ما أخفوا بما خفي. والله أعلم. وسيأتي بيانه. وفي قيام الليل أحاديث كثيرة منها حديث معاذ بن جبل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: " أَلاَ أَدُلُّك على أبواب الخير: الصوم جُنّة، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل من جَوْف الليل ـ قال ثم تلا ـ { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ ـ حتى بلغ ـ يَعْمَلُونَ } " أخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذيّ، وقال فيه: حديث حسن صحيح. الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها العتمة قاله الحسن وعطاء. وفي الترمذيّ: عن أنس بن مالك أن هذه الآية { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } نزلت في انتظار الصلاة التي تُدْعَى العَتمَة قال: هذا حديث حسن غريب. الثالث: التنفُّل ما بين المغرب والعشاء قاله قتادة وعكرمة. وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } قال: كانوا يتنفَّلون ما بين المغرب والعشاء. الرابع: قال الضحاك: تَجافِي الجُنُب هو أن يصلّي الرجل العشاء والصبح في جماعة. وقاله أبو الدّرداء وعُبادة. قلت: وهذا قول حسن، وهو يجمع الأقوال بالمعنى، وذلك أن منتظِر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكرٍ لله جلّ وعز كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة " وقال أنس: المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل.

السابقالتالي
2 3