الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } لما نهاه عن الخُلُق الذميم رسم له الخُلقَ الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» أي توسّط فيه. والقصد: ما بين الإسراع والبطء أي لا تَدِبّ دبيب المُتَمَاوتين ولا تَثب وثب الشطار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع ـ فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت والله أعلم. وقد مدح الله سبحانه مَن هذه صفته حسبما تقدّم بيانه في «الفرقان». الثانية: قوله تعالى: { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي انقص منه أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع وقد قال عمر لمؤذّن تكلّف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مُرَيْطَاؤك! والمؤذّن هو أبو محذورة سَمُرة بن مِعْيَر. والمُرَيْطاء: ما بين السرة إلى العانة. الثالثة: قوله تعالى: { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } أي أقبحها وأوحشها ومنه أتانا بوجه منكر. والحمار مَثَل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نُهاقه ومن استفحاشهم لذكره مجرداً أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عُدَّ في مساوىء الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرُّجْلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعاً وتذللاً لله تبارك وتعالى. الرابعة: في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والمُلاحاة بقبح أصوات الحمير لأنها عالية. وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوّذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً " وقد روي: أنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطاناً. وقال سفيان الثَّوْرِي: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وقال عطاء: نهيق الحمير دعاء على الظلمة. الخامسة: وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاوناً بهم، أو بترك الصياح جملة وكانت العرب تَفْخَر بجهارة الصوت الجَهِير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، حتى قال شاعرهم:
جَهِير الكلام جهير العُطاس   جهِير الرُّواء جهير النَّعَم
ويَعْدُو على الأيْنَ عَدْوَى الظَّليم   ويعلو الرجال بخَلْق عَمَم
فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } أي لو أن شيئاً يهاب لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل سواء. السادسة: قوله تعالى: { لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } اللام للتأكيد، ووحد الصوت وإن كان مضافاً إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة، وهو مصدر صات يَصُوت صَوْتاً فهو صائت. ويقال: صوّت تصويتاً فهو مصوِّت. ورجل صاتٌ أي شديد الصوت بمعنى صائت كقولهم: رجل مالٌ ونالٌ أي كثير المال والنوال.