الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }

المعنى: وقال لقمان لابنه يا بُنَيّ. وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى. وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحِسّ لا يدرك لها ثِقَلاً، إذ لا ترجّح ميزاناً. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبّة خَرْدَل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتباع سبيل من أناب إليّ. قلت: ومن هذا المعنى " قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «لا تكثِر همك ما يُقَدِّر يكون وما تُرْزق يأتيك» " وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً سبحانه لا شريك له. وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في سُفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية. وقيل: المعنى أنه أراد الأعمال، المعاصي والطاعات أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقالَ حبة يأت بها الله أي لا تفوت الإنسان المقدّر وقوعُها منه. وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى. وفي القول الأوّل ليس فيه ترجية ولا تخويف. قوله تعالى: { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة وتصلح للأعمال أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة. ومما يؤيّد قول من قال هي من الجواهر: قراءة عبد الكريم الجَزَري «فتكِنّ» بكسر الكاف وشدّ النون، من الكنّ الذي هو الشيء المغطى. وقرأ جمهور القرّاء: «إِنْ تَكُ» بالتاء من فوق «مِثْقَالَ» بالنصب على خبر كان، واسمها مضمر تقديره: مسألتك، على ما روي، أو المعصية والطاعة على القول الثاني ويدلّ على صحته قولُ ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } الآية. فما زال ابنه يضطرب حتى مات قاله مقاتل. والضمير في «إنَّهَا» ضمير القصة كقولك: إنها هند قائمة أي القصة إنها إن تك مثقال حبة. والبصريون يجيزون: إنها زيد ضربته بمعنى إن القصة. والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا. وقرأ نافع: «مِثقالُ» بالرفع، وعلى هذا «تكُ» يرجع إلى معنى خردلة أي إن تك حبة من خردل. وقيل: أسند إلى المثقال فِعلاً فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة كما قال:فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160] فأنّث وإن كان المِثل مذكراً لأنه أراد الحسنات.

السابقالتالي
2