الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }

قوله تعالى: { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيـى بن سلام والفرّاء: مقبلين إليه. وقال عبد الرحمن بن زيد: مطيعين له. وقيل: تائبين إليه من الذنوب ومنه قول أبي قيس بن الأسْلَت:
فإن تابوا فإن بني سليم   وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد فإن «ناب وتاب وثاب وآب» معناه الرجوع. قال الماوردِيّ: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع ومنه أخِذ اسم الناب لأنه قاطع فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عزّ وجلّ بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى ومنه النَّوْبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري: وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنَّوْبة واحدة النُّوَب، تقول: جاءت نَوْبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النَّوْبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى: «أَقِمْ وَجْهَكَ» فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفرّاء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل: انتصب على القطع أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه لأن الأمر له، أمرٌ لأمته فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى:يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [الطلاق: 1]. { وَٱتَّقُوهُ } أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } بيّن أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص فلذلك قال: «وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وقد مضى هذا مبيناً «في النساء والكهف» وغيرهما. { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } تأوّله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة: أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبِدع. وقد مضى «في الأنعام» بيانه. وقال الربيع بن أنس: الذين فرّقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى وقاله قتادة ومَعْمَر. وقرأ حمزة والكسائي: «فَارقُوا دِينَهم»، وقد قرأ بذلك عليّ بن أبي طالب أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد. { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي فِرقاً قاله الكَلْبيّ. وقيل أدياناً قاله مقاتل. { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي مسرورون معجبون، لأنهم لم يتبيّنوا الحق وعليهم أن يتبيّنوه. وقيل: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث: أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحاً بمعصيته، فكذلك الشيطان وقُطّاع الطريق وغيرهم، والله أعلم. وزعم الفرّاء أنه يجوز أن يكون التمام «وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ويكون المعنى: من الذين فارقوا دينهم «وَكَانُوا شِيَعاً» على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلاً بما قبله. النحاس: وإذا كان متصلاً بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف كما قال جل وعز:قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف: 75] ولو كان بلا حرف لجاز.