الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ } فيه ثلاث مسائل: الأولى: قال الزجاج: «فِطْرَةَ» منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» اتبع الدّين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري: «فِطْرَةَ اللَّهِ» مصدر من معنى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ» لأن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فِطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناسَ له وعلى هذا القول يكون الوقف على «حَنِيفاً» تاماً. وعلى القولين الأوّلين يكون متصلاً، فلا يوقف على «حَنِيفاً». وسميت الفِطْرة دِيناً لأن الناس يُخلقون له، قال جلّ وعز:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. ويقال: «عَلَيْهَا» بمعنى لها كقوله تعالى:وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7]. والخطاب بـ«أَقِمْ وَجَهَكَ» للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدِّين المستقيم كما قال:فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ ٱلْقِيِّمِ } [الروم: 43] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوّة على الجِدّ في أعمال الدين وخصّ الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفُه. ودخل في هذا الخطاب أمّتُه باتفاق من أهل التأويل. و«حَنِيفاً» معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة. الثانية: في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «ما من مولود إلا يولد على الفِطرة ـ في رواية على هذه الملة ـ أبواه يُهَوّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانه كما تُنْتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسّون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم { فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } ، في رواية: «حتى تكونوا أنتم تجدعونها» قالوا: يا رسول الله أفرأيتَ من يموت صغيراً؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» " لفظ مسلم. الثالثة: واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعدّدة منها الإسلام قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما قالوا: وهو المعروف عند عامّة السلف من أهل التأويل واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعَضَدوا ذلك بحديث عِياض بن حِمار المُجَاشِعيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوماً: " ألاَ أحدّثكم بما حدّثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالاً وحراماً... " الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الفطرة... " فذكر منها قصّ الشارب، وهو من سنن الإسلام وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يُدرِكوا في الجنة أولادَ مسلمين كانوا أو أولاد كفار.

السابقالتالي
2 3 4 5 6