الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }

قوله تعالى: { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } قرأ حمزة والكسائي «فناداه» بالألف على التذكير، ويُميلانها لأنّ أصلها الياء، ولأنها رابعة. وبالألف قراءة ٱبن عباس وٱبن مسعود، وهو ٱختيار أبي عبيد. وروي عن جرير عن مُغِيرة عن إبراهيم قال: كان عبد الله يُذكّر الملائكة في كل القرآن. قال أبو عبيد: نراه اختار ذلك خلافاً على المشركين لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله. قال النحاس: هذا آحتجاج لا يُحصَّل منه شيء لأن العرب تقول: قالت الرجال، وقال الرجال، وكذا النساء، وكيف يحتجّ عليهم بالقرآن، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرٱن بهذا لجاز أن يحتّجوا بقوله تعالى:وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [آل عمران: 42] ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل:أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [الزخرف: 19] أي فلم يشاهدوا، فكيف يقولون إنهم إناث فقد عُلم أن هذا ظنّ وهَوىً. وأما «فناداه» فهو جائز على تذكير الجمع، «ونادته» على تأنيث الجماعة. قال مَكي: والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل، تقول: هي الرّجال، وهي الجذوع، وهي الجِمال، وقالت الأعراب. ويقوّى ذلك قوله: «وَإذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكةُ» وقد ذكر في موضع آخر فقال:وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ } [الأنعام: 93] وهذا إجماع. وقال تعالى:وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } [الرعد: 23] فتأنيث هذا الجمع وتذكيرهُ حَسَنان. وقال السُّدي: ناداه جبريل وحده وكذا في قراءة ٱبن مسعود. وفي التنزيليُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } [النحل: 2] يعني جبريل، والروح الَوحْي. وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } يعني نُعيم بن مسعود على ما يأتي. وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الأظهر. أي جاء النداء من قبلهم. قوله تعالى: { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } «وهو قائم» ٱبتداء وخبر «يصلِّي» في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر. «أن الله» أي بأن الله. وقرأ حمزة والكِسائي «إنّ» أي قالت إن الله فالنداء بمعنى القول. «يبشرك» بالتشديد قراءة أهل المدينة. وقرأ حمزة «يِبْشُرُك» مخففا وكذلك حُميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء. قال الأخفش: هي ثلاث لغاتٍ بمعنًى واحد. دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمرٍ فهو بالتثقيل كقوله تعالى: «فَبَشِّرْ عِبَادي» فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ» «فَبَشَّرْنَاهِا بإسْحَاقَ» قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ». وأما الثانية وهي قراءة عبدالله بن مسعود فهي من بَشَر يَبْشُر وهي لغة تِهامة ومنه قول الشاعر:
بشَرتُ عِيالي إذْ رأيتُ صحيفةً   أتتك من الحجّاج يُتلى كتابُهَا
وقال آخر:
وإذا رأيت الباهشين إلى النّدى   غُبْراً أكُفُّهُم بِقاعٍ مُمْحِلِ
فأعِنْهُم وٱبَشْر بما بَشروا به   وإذا هُم نَزِلُوا بضَنْك فانزِل

السابقالتالي
2 3