الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ }

فيه سبع مسائل: الأولى: لما أخبر جلّ وتعالى عن الباخلين وكُفرهم في قولهم: { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله { لَتُبْلَوُنَّ } الآية ـ بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم فإن أمد الدنيا قريب ويوم القيامة يوم الجزاء. { ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } من الذّوق، وهذا مما لا مَحِيص عنه للإنسان، ولا محيد عنه لحيوان. وقد قال أميّة بن أبي الصلت:
من لم يمت عَبْطَةً يُمت هَرَماً   لِلموت كأسٌ والمرء ذائِقُها
وقال آخر:
الموتُ بابٌ وكُّل الناس داخِلهُ   فليتَ شِعْرِىَ بعد الباب ما الدَّار
الثانية: قراءة العامة { ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } بالإضافة. وقرأ الأعمش ويحي وابن أبي إسحاق «ذائقةٌ الموت» بالتنوين ونصب الموت. قالوا: لأنها لم تُذق بعدُ. وذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المُضِي. والثاني بمعنى الاستقبال فإن أردت الأوّل لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده كقولك: هذا ضارب زيدٍ أمسِ، وقاتل بَكْرٍ أمسِ لأنه يُجرى مجرى الاسم الجامد وهو العلم، نحو غلامُ زيدٍ، وصاحبُ بكْرٍ. قال الشاعر:
الحافِظُو عَوْرة العشِيرة لايَأ   تيهِمُ مِن وَرَائهمْ وكَفُ
وإن أردت الثاني جاز الجرّ، والنّصب والتّنوين فيما هذا سبيله هو الأصل لأنه يجري مجرى الفعل المضارع. فإن كان الفعل غير متعدّ، لم يتعدّ نحو قائمٌ زيدٌ. وإن كان مُتَعدّيا عدّيته ونصبت به، فتقول: زيدٌ ضاربٌ عمروا بمعنى يضرب عمروا. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا، كما قال المَرّار:
سَلِّ الهُمومَ بِكُل مُعْطي رأسه   ناجٍ مُخالِطِ صُهْبَةٍ مُتعَيسِ
مُغْتَالِ أَحْبُلِه مُبِينٍ عُنْقُه   في مَنْكَبٍ زَبَنَ المَطي عَرَنْدَسِ
فحذف التنوين تخفيفا، والأصل: مُعْطٍ رأسَه بالتنوين والنصب، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى: { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } وما كان مثله. الثالثة: ثم ٱعلم أن للموت أسباباً وأماراتٍ فمن علامات موت المؤمن عَرَقُ الجبين. أخرجه النَّسائي من حديث بُريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المؤمن يموت بِعَرَق الجَبِين " وقد بيّناه في «التذكرة» فإذا احتُضِر لُقِن الشهادة لقوله عليه السلام: " لَقِنوا موتاكم لا إله إلا الله " لتكون آخر كلامه فيُختَم له بالشهادة ولا يعاد عليه منها لئلا يضجَر. ويستحبّ قراءة «يسۤ» ذلك الوقت لقوله عليه السلام: " ٱقرَءوا يسۤ على موْتاكم " أخرجه أبو داود. وذكر الآجُرِّي في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ميتٌ يُقرأ عنده سورة يسۤ إِلا هُوِّن عليه الموت " فإذا قُضي وتَبِع البصرُ الروح ـ كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ـ وارتفعت العبادات: وزال التكليف، توجّهت على الأحياء أحكام منها تغميضُه، وإعلامُ إخوانه الصُلحَاء بموته وكَرِهه قوم وقالوا: هو من النعى.

السابقالتالي
2 3 4