الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } * { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

وفيه ثمان مسائل: الأولى: لمّا بيّن الله تعالىٰ أنّ ما جرى يوم أُحُد كان ٱمتحاناً يُميّز المنافق من الصَّادق، بيّن أن من لم ينْهَزِم فقُتل له الكرامةُ والحياةُ عنده. والآية في شُهَداء أُحُد. وقيل: نزلت في شهداء بئر مَعُونة. وقيل: بل هي عامّة في جميع الشهداء. وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «لمّا أُصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في جَوْف طَير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكُل من ثمارها وتأوِي إلى قناديلَ من ذهب معلَّقةٍ في ظِلّ العَرْش فلما وجدوا طِيب مأْكَلِهم ومَشْرَبهم ومَقِيلهم قالوا مَن يُبلِّغ إخوانَنَا عنّا أنّا أحياءٌ في الجنة نُرْزَق لئلا يَزْهَدوا في الجهاد ولا يَنْكُلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم» ـ قال ـ فأنزل الله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } إلى آخر الآيات " وروى بقِيّ بن مَخْلَد " عن جابر قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جابر ما لي أراك مُنَكِّساً مُهْتَمّاً»؟ قلت: يا رسول الله، اسْتُشْهِد أبِي وترك عِيالاً وعليه دَيْنٌ فقال: «ألاَ أُبَشِّرك بما لقي اللَّهُ عزّ وجلّ به أباك»؟ قلت: بلىٰ يا رسول الله. قال: «إن الله أحْيَا أباك وكلمه كِفاحاً وما كلّم أحد قطُّ إلاَّ من وراء حجاب فقال له يا عبدي تَمنّ أُعْطِك قال يا رب فرُدّني إلى الدنيا فأُقْتَل فيك ثانيةً فقال الربّ تبارك وتعالىٰ إنه قد سبق مِني أنهم إليها لا يرجعون قال يا ربّ فأبلغ مَن ورائي» فأنزل الله عزّ وجلّ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية " أخرجه ابن ماجه في سُنَنه، والتَّرمذِيّ في جامعه وقال: هذا حديث حسن غرِيب. وروى وكيع عن سالم بن الأفْطَس عن سعيد بن جبير { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } قال: لما أُصيب حمزة بن عبد المطّلب ومُصْعَب بن عُمير ورأوا ما رُزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رَغْبَةً فقال الله تعالىٰ أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالىٰ: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } ـ إلى قوله: { لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. وقال أبو الضُّحىٰ: نزلت هذه الآية في أهل أُحُد خاصّةً. والحديثُ الأوّل يقتضي صحةَ هذا القول. وقال بعضهم: نزلت في شهداء بَدْر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانيةٌ من الأنصار، وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء بئر مَعُونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره. وقال آخرون: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسّروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور.

السابقالتالي
2 3 4 5 6