الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ }

«ما» صلةٌ فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة كقوله: { عَمَّا قَلِيلِ } { فِبمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ } وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبوية معنى الزيادة من حيث زال عملها. ابن كَيْسان: «ما» نكرة في موضع جر بالياء { رَحْمَةٍ } بَدلٌ منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رَفَق بمن تولى يوم أُحُد ولم يُعَنِّفْهُمْ بيّن الرّبُّ تعالى أنه إنما فَعَل ذلك بتوفيق الله تعالى إيّاه. وقيل: «ما» اسْتِفْهَامٌ. والمعنى: فَبِأي رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُم فهو تعجب. وفيه بُعْدٌ لأنه لو كان كذلك لكان «فبم» بغير ألف. { لِنتَ } مِنَ لاَنَ يَلِينُ لِيناً وَلَيَناً بالفتح. والْفَظُّ الْغَليظُ الجَافي. فَظِظْتَ تَفِظُّ فَظَاظَةً وفِظَاظاً فأنت فَظٌّ. والأنثى فَظَّةٌ والجمع أفْظَاظ. وفي صفة النبيّ عليه السلام ليس بفَظٍّ ولا غَلِيظٍ ولا صَخَّابٍ في الأسواق وأَنشَدَ المُفَضّل في المذكر:
وليس بفَظٍّ في الأَدَاني والأَولى   يَؤُمُّون جَدْوَاهُ ولكنّه سَهْلُ
وفَظٌّ على أعدائِهِ يَحْذَرُنَهُ   فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ ونائِلهُ جَزْلُ
وقال آخرُ في المُؤنَّثِ:
أَموتُ مِن الضُّرِّ في منزلي   وغيري يموتُ من الكِظَّهْ
ودُنْيَا تَجودُ على الجاهليـ   ـن وهْي على ذي النُّهىَ فَظَّه
وغِلَظُ القلب عِبارةٌ عن تَجَهُّم الوجه، وقِلّةِ الانْفِعَالَ في الرَّغائِبِ، وقِلّة الإشْفَاقِ والرّحمة، ومن ذلك قولُ الشّاعر:
يُبْكى عَلَيْنَا ولا نَبْكي على أَحدٍ؟   لَنَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً من الإبلِ
ومَعَنى { لاَنْفَضُّواْ } لتفرقوا فضضتهم فانفضّوا، أي فرّقتهم فتفرقوا ومن ذلك قول أبي النّجم يصف إبلا:
مستعجلات القيض غير جُرْد   ينفضّ عنهنّ الحَصَى بالصَّمْد
وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفْيضُض الله فَاكَ. والمَعنى: يا محمدُ لولا رفقُك لَمَنَعَهِم الاحتِشَامُ والهيبةُ من القربِ منك بعد ما كان من تَوَلِّيهم. قوله تعالى: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } فيه ثمان مسائل: الأولى ـ قال العلماء: أمرَ الله تعالى نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ وذلك أنه أمره بأن يَعفُوا عنهم ما له في خاصّته عليهم من تَبِعةٍ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تَبِعَة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أَهْلاً للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة. الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شُرْتُ الدابة وشوّرتُها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركُضُ فيه: مِشوَار. وقد يكون من قولهم: شُرْت العسَل واشْتَرْتهُ فهو مَشوُر وَمُشْتار إذا أخذته من موضعه، قال عَدي بنُ زَيد:
في سَمَاع يأذَنُ الشَّيْخُ له   وحَديثٍ مْثلِ مَاذِيٍّ مُشَار
الثانية: قال ابنُ عَطِية: والشُّورَى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام من لا يَسْتشِيرُ أهلَ العِلم والدِّين فَعزْلُهُ واجبٌ. هذا ما لاَ خلاف فيه. وقد مَدَح الله المُؤمنين بقوله:وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } [الشورىٰ: 38] قال أَعْرَابيٌ: ما غُبِنْتُ قَطٌّ حتى يُغْبَنَ قومي قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أَفْعَل شيئا حتى أُشَاوِرهُم.

السابقالتالي
2 3 4